www.omaraltaleb.com

 

عمـر الطالـب... رحيـل موسوعـة تـورد عـن كـل حـادث حديـث

طائـر السبـت حلّـق بعيـداً

يحيي صديق يحيي

لا أحد في هذا العالم مثل جنيد الفخري يجتهد في لم شمل المتورطين بالثقافة والعالقين في دروبها. يعرفهم بسيماهم وشخوصهم وبيوتاتهم وهواتفهم المحمولة والمنقولة، ينصب شراكه المغرية حتى إذا ما دبت خطواتهم أطبقت عليها والتهمتها جمعا أكانوا أصحابا أم فرادي، حينها لامناص لهم من مخرج، يقترب منهم، يعصب أعينهم بأوراقه وكتبه ومستلاته وما وقعت عليه يداه النشيطتان، المعفرتان بطين غابر الأيام وترابها، من أخبار وحكايات معبأة في ملفات وقراطيس اغلبها سرية واقلها علنية، عبر حياته التي أفناها بسخاء في الاكتشافات والتنقيبات سواء في باطن الأرض أو ظاهرها.

يمطر أصحابه بغريب الكلام وهو يطوف عليهم موزعا فناجين قهوته اللذيذة أو كؤوس عصائره المبتكرة، وهم لاهون في ضجيجهم ودخان سجائرهم وتصفحهم للكتب والصحف والمجلات في فناء قصره العتيد قصر الحاج توفيق ذائع الصيت. يجود بضحكاته وينثر تعليقاته وطرفه وهو يتقافز بين الصحب كطائر مشاكس.

وآخر ما تفتق في ذهنه هو اصطحابنا صباح السبت من كل أسبوع إلى منزل أ.د.عمر الطالب بعد أن يكون قد أعد له في يوم سابق فيتصل بي ثم بفارس السردار الذي ينحدر باكرا من مسكنه في شرق الموصل ليلتقي بنا في شارع النجفي وما أن نجلس عند مكتب أحد الأصدقاء لكي نطبع ما يمكن طباعته ونهيئ ما ننوي عرضه على أنظار الدكتور الطالب أو مناقشته معه حتى يدخل علينا ناهض الرمضاني فيعلن بقدومه اكتمال النصاب وجلبة المغادرة. نلملم أوراقنا، يتبعنا غبارنا، ونخترق شارع النجفي ثم نستقل سيارة تعبر بنا الحواجز والطرق المزدحمة، لتوصلنا إلى جهتنا المبتغاة.

وعند وصولنا يطل علينا الدكتور الطالب بقامته المديدة وأريحيته الودودة مرتديا دشداشته الدكناء التي تعكس قدرا كبيرا من البساطة والألفة في شخصيته، فلطالما اعتدنا رؤيته بزيه الرسمي وأناقته الجامعية.

 

أيام الدواسة

تتكشف لنا خلفية هذا الرجل المنحدر من أسرة عريقة عرف عنها الاعتناء بالخيول واستقدام البعض منها من بلاد الهند وإيواءها في حظائر عرفت وقتها بـ(طولات الطوالب)، فضلا عن احترافها للضيافة. والواقع أننا كنا قد اعتدنا رؤية الرجل في أروقة كلية الآداب أو على منصات المحاضرات والندوات وهو يلقي محاضرة أو يدلي برأي أو يناقش أطاريح.

وما قبل ذلك اذكر أنني كثيرا ما كنت المحه في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته في مكتبات الدواسة (أيام كان في الدواسة حياة!)، يتصفح كتابا أو يمسح بعينيه رفوف الكتب وعارضات المجلات، أو يسير منفردا أو مع صحبه حاملا معه مسبحته ذات الخرزات الكبيرة التي سأسأله عنها في قادم الأيام.

وقد المحه في سينمات الدواسة قرب شبابيك الصور متأهبا للدخول أو للخروج. لمحته ذات يوم في سينما غرناطة عندما كان يعرض فيها فيلما يعالج موضوعا أسطوريا بعنوان (تريستان وايزولد) كان برفقة يوسف البارودي مدرس اللغة العربية اللامع في الإعدادية المركزية الذي غرس فينا بذرة الثقافة وحبب إلينا الفكر والأدب والفن وكره إلينا القبح والبشاعة ولحن القول إبان السبعينات أيام كان يقرأ لنا وهو يروح جيئة وذهابا في قاعة الدرس قصيدة ألجواهري التي يقول فيها:

لثورة الفكر تأريخ (يحدثنا بأن ألف مسيح دونها صلبا) وكيف أن الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي نهض وانحني تقديرا لهذا البيت في مؤتمر الأدباء الذي انعقد في الستينيات في دمشق.

وعندما كان يقرأ قصيدة (أحمد الزعتر) لـمحمود درويش عبر ديوان شعري حسن التغليف والمظهر وزع في مهرجان شعري:

مضت الغيوم وشردتني

ورمت معاطفها الجبال وخبأتني

نعم... في السبعينيات أيام كنا نتطلع إلى عالم يبدو اليوم اقرب إلى البلاهة في أن يتحقق وأن يكون. اليوم بعد أن وخط الشيب رؤوسنا ندنو من عمر الطالب ذلك الرجل الذي كنا نقرا له نقوداته على صفحات جريدة الحدباء الموصلية حيث واكب بإخلاص وموضوعية أدب الشباب القصصي في مدينة الموصل.

لا أظن أن هذه الإنثيالات أبعدتني عن القصد أو تطرفت في استعراضها. فلا املك تجاهلها وهي تموج وتعتمل في داخلي وأنا في الطريق إلى بيت الرجل، هي صور راحت تزدحم وتتالي عندما دخلنا صالة الاستقبال التي ثبت على احد جدرانها مكتبة عالية الارتفاع، متراصة الكتب، ليست سوي واجهة أنيقة لكتب أخري معبأة في صناديق كارتونية لا يعلم تفاصيلها وتبويباتها إلا د.عمر الطالب نفسه، وقد عرض الدكتور جزيل الجومرد والفنان جنيد الفخري رغبتيهما في ترتيبها إلا أن الدكتور عمر كان رفيقا بهما.

ثمة صورة كبيرة بالأسود والأبيض لرجل يوحي بالجبروت يعتمر عقالا هاشميا متقن الصنع، تستقر على كتفيه عباءة صوفيه سوداء، وشاربان كثان يوحيان بالصرامة ينتصبان على فم لا أظنه كان كثير الابتسام أو الكلام، على نحو يذكرك برجال الصحراء في كتاب لورنس (أعمدة الحكمة السبعة)، صورة للشرق بكل فحولته الأسطورية وكبريائه الباذخ، تتقاطع تماما مع الملامحة الودية والأنيسة لعمر الطالب الذي يجلس بهدوء طاغ تحت هذه الصورة مباشرة.

لا يمضي وقت طويل حتى يدخل الدكتور جزيل الجومرد ببشاشته المميزة ونظارته التي تتحرك وراءهما عينان بدتا صغيرتين من شدة سمك العدستين، فهو رجل محترف للقراءة، مسكون بفيروسها، لا تفارقه عادة تصفح الكتب واستعراض أسمائها وأصحابها، يضيء الجلسة بآراء ومقتبسات تكشف لك عن غني ثقافته وتنوعها، ملم بالأدب وأخباره كما هو ملم باختصاصه الذي يتحدث عنه بمتعة نادرة، مستعينا بأصابعه وملامح وجهه. ثم ما لبث أن أطل علينا ذات يوم الأستاذ أكرم خطاب عمر العارف بمسالك الطرق ومقاصدها حيث ساقته قدماه اللتان لا تخطئان دروب المجالس وتتجشمان عناء الوصول إليها، ابتهجنا بقدومه وبصندوق عجائبه الذي فتحه في مجلسنا وراح يخرج لنا منه قصصا غرائبية وحكايات عجيبة وخرائط فذة وطروس وأيقونات ومباحث عن كتب نفيسة وقديمة وعن ممالك وأوطان لها أسماء غير مسمياتنا، وهيئات وطرق وامتدادات تصلنا بتخوم بحار بعيدة وجبال قصية وإضاءات تلمع وتخفت، منهمكا يربط بين هذه وتلك، حتى إذا ما شنف أذاننا وشدنا إلى دروب هو اعلم بشعابها، استأذننا خشية إسهابه بالحديث وإغراقنا بصور مزدحمة تتالت علينا مسرعة، نحاول لملمة أجزائها وتركيب عناصرها فيعذرنا ونعذره ولانلوم أنفسنا ولايلومنا، فهكذا هي الدنيا أحوال وأمواج ولطالما بدت في كثير من الأحيان كشعرة معاوية معلقة بين الحقيقة والخيال!.

ثم أنضم إلى مجلسنا فيما بعد عمار أحمد و بسام الجلبي.

 

آلام تتحرك

تدور أحاديث ملونة كثيرة شرقية وغربية، قديمة خصبة تفوح منها رائحة عتق لذيذة، ومستجدة ينبعث منها دم ورماد ودخان وظلال لحواجز ومتاريس وطلقات ومفرقعات وعذابات وصراخات وآلام تتحرك في مواجيد الجلساء فيتوجعون ويتألمون ويتألمون... أفكار يطرحها الصحب تأخذ مسارات عدة قد تختلف، لكنها تتعانق عند تخوم تلك الرؤي البعيدة التي كانوا يتطلعون إليها ذات يوم ويحلمون في أن تكون....

عرضت ما حبرت من كلام على الطالب فسره وراقه كثيرا، وتوقف أمام صور أثارت فيه شجونا غافية في الذاكرة. قلت له سأنشره إذن، لكنه أومأ قائلا: (ليس بعد دعه ليكتمل) وفعلت.

كنا سعداء بلقاءاتنا تلك، وفي وسع من يلمحنا ونحن خارجون من منزله أن يقرأ ذلك ببساطة شديدة في ملامح جنيد الأسطورية، وعيون د.جزيل الودودة وقسمات السردار والرمضاني، وغالبا ما كنا نخرج ضاحكين كطلاب غادروا لتوهم قاعة للدرس، يبطئ السردار والرمضاني ليشعلا سيكارتيهما، ونقطع الطريق حتى نصل جامع الشبخون فيغادرنا د.جزيل باسما ويمضي كل منا في شأنه.

لطالما ندمت لأنني لم التق الدكتور الطالب في وقت مبكر من حياتي وقد بادلني الرجل الشعور ذاته. لم تتجاوز الأشهر التي ترددنا فيها على منزله عدد الأصابع، حتى هاتفني ذات يوم جنيد الفخري قائلا (عمر الطالب في غرفة رقم "8" في العناية القلبية المركزة بالمستشفي العام ألا تعلم؟ تعال لنذهب إليه)، وذهبت.

كان الطالب متكئا على سرير المرض يغمره نور الشموع البيضاء الكئيبة في ذلك المستشفى، أومأت له بالسلام، حدثته، بدا ساكنا، متعبا، نحيلا، متعرقا بعض الشيء، لم ينبس بحرف كما لم ترتسم على وجهه ابتسامة. ورحت أتردد عليه في المستشفى على مدى ثلاثة أيام، وفي كل مرة أزوره فيها أقرأ على محياه ملامح التأهب لرحيل طويل.

حتى أطل ذلك المساء الحزين ورنت إشارة الرسالة في النقال وقرأت (لماذا لم تعلمني بالخبر الأليم..فارس) وأجبت (أي خبر؟بس لا عمر!) أردف بكلمة قاسية واحدة: (نعم)..نعم.. الإيجاب المر الذي نتمناه نفيا في هذه المواقف..

اكتمل النص واطل الأسى ناشرا غلالته السوداء بعد أن مكث غير بعيد يرنو إلى مرارة النهاية.

أطرقت صامتا، يلفني حزن عميق.

فجأة سمعت طرقا رفيقا على باب منزلي أخرجني من الذهول الذي كنت فيه. كان طفلا بعمر الربيع بادرني قائلا: (عمو الطير مالي على سطوح بيتكم)، أذنت له بالدخول، صعد السطح، واقترب بهدوء مادا يديه بحذر بالغ نحو الطائر الذي كان يقف ساكنا، بيد أن الطائر أحس بالخطر الزاحف، تحرك فجأة وأطلق جناحيه سابحا صوب سماوات بعيدة...