العودة للصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

 

عمـر الطالـب يحب الموصل كثيرا

بقلم الدكتور صالح محمد حسن أرديني / كلية التربية الأساسية قسم اللغة العربية

 

 

    لا يمكن لي أن أنسى ذلك اليوم الذي رأيت فيه المرحوم الأستاذ الدكتور عمر الطالب للمرة الأولى - واعتقد أن كثيرا من زملائي لم ولن ينسوه - كان ذلك في العام الدراسي 1983-1984 وكنت حينها طالبا في السنة الأولى في قسم اللغة العربية، لم أكن أعرفه من قبل حتى دخل علينا في القاعة بهيئته المميزة؛ قميصه الأحمر وشعره الممشط بالمقلوب، وصوته الناعم. نهرنا قائلا: أنتم مسامير في نعش اللغة العربية،  وأنتم ما مؤدبين، وراح أجيب لكم من يؤدبكم،  لماذا تشاكسون في درس التاريخ وتزعجون أستاذة المادة، وأذكر أن إحدى الطالبات لم تسيطر على نفسها من غرابة الموقف فضحكت فنالت النصيب الأوفر من رزالة الشعبة. فور خروجي من القاعة ذهبت أسال عن هذا الأستاذ فقالوا إنه الدكتور عمر الطالب الذي يُدرِّس بالطريقة كذا ويقول كذا ولديه إبداعات كذا وكذا وهو ثالث ناقد في الوطن العربي وهو غير متزوج وليس لديه إخوة وأخوات وما إلى ذلك من أخبار يتداولها الطلبة كما هي عادتهم منها ما هو محقق وكثير منها مختلق.

    أحسست بأن شيئا ما يشدني إلى هذا الأستاذ الغريب وبدأت أتلهف لحضور محاضراته وسماع دروسه سألت أحد الطلاب، متى يدرسنا هذا الأستاذ فأجابني انتظر حتى تصبح في السنة الرابعة حينها ستدرس على يديه مادة النقد الأدبي الحديث.

    انتهت السنة الأولى ثم الثانية، وما إن أصبحت على أعتاب السنة الثالثة وبت اقرب ما أكون من دائرة النقد الأدبي الحديث حتى تبدد هذا الحلم دفعة واحدة وذلك بشيوع خبر سفر د.عمر الطالب إلى المغرب للتدريس فيها سنوات عدة.

    أكملت دراستي الجامعية والتحقت بالخدمة العسكرية، راجعت الكلية في بعض إجازاتي، أتفقد زملائي وزميلاتي وأساتذتي لكني لم أعثر عليه في غرف التدريسيين ولم أشاهده في أروقة الكلية.

    في العام الدراسي 1991-1992 قُبِلتُ في الدراسات العليا ووجدت نفسي وجها لوجه أمام الدكتور عمر الطالب العائد للتو من المغرب فدرست على يديه المذاهب النقدية، لكن هذا الدرس الأسبوعي لم يكن ليشفي غليلي،  فأخذت أحضر دروس النقد الأدبي الحديث مع طلبة السنة الرابعة، وكان يحضر معي عدد من طلبة الدراسات العليا من الماجستير والدكتوراه أذكر منهم د.محمد صابر عبيد،  ود.عبد الستار عبد الله،  ود. هلال محمد جهاد، و د.محمد جبارة، لاسيما أن مرحلة ما بعد المغرب تعد مرحلة انتقالية في حياة عمر الطالب العلمية لأن المغرب وعلى حد قوله غيرت كثيرا من مفاهيمه وأفكاره ورؤاه وحتى طريقة تعامله مع الطلبة، فكنت أراه لا يسجل غيابات طلبة السنة الرابعة ومع ذلك فالقاعة تكتظ بهم،  وكنت أراه يتركهم في قاعة الامتحان ويذهب إلى الكافيتيريا ليشرب الشاي أو القهوة دون أن يعبأ بمسألة الغش مثلا.

    لم يكن عمر الطالب أستاذا تقليديا في طريقة شرح المادة وعرضها وفي طرح الأسئلة أو الإجابة عنها وكانت أمثلته حاضرة ومثيرة، كان يكرر هذه الجملة دائما (خلي أجيب مثل) فيأتيك به من حيث لا تتوقع؛ من عالم الفن والتمثيل أو عالم القصة والرواية،  من عالم السياسية والاقتصاد، أومن داخل الكلية أو من حياته الخاصة أو من بيئة الموصل أو من عالم الخيال فتجد نفسك كأنك أمام أسطورة أو خرافة  

    أحدث عمر الطالب طفرة كبيرة في مستويات الطلبة لاسيما طلبة الدراسات العليا وحطم أسطورة شوقي ضيف التي هيمنت على عقول الطلبة طيلة السنوات الأربع في تتبع تاريخ الأدب العربي،  وتبنى واحتضن كثيرا من الطلبة ممن كان يصفهم بان لهم القابلية على التعلم واستطاع أن يغير مسار الدراسات العلي، ويُنشئ جيلا علميا من نوع آخر مازالت ثماره تؤتي أكلها لحد الآن، وغيَّر مجرى مناقشات الدراسات الأدبية، فكانت له صولات وجولات على منصة المناقشة وكانت القاعة تغص بمن فيها لكثرة الحضور، والحق أنه بث الرعب والهلع في نفوس كثير من الطلبة المرشحين لأن يناقشهم ومع ذلك فلم يقف في طريق نجاح أحد.

     بدأت أراجع الدكتور عمر في مكتبه واسأله بعض الأسئلة، وتجرأت أكثر فطلبت منه أن يزودني بأسماء بعض الكتب التي علي أن أقرأها حتى أكون بمستوى يؤهلني للحوار معه، وأذكر أنني عندما أعجز في الحصول على كتاب ما أطلبه منه فيأتيني به وكان دقيقا جدا في هذه المسالة ونادرا ماكان ينسى كتابا وعدني به.

    وتطورت علاقتي به أكثر فلازمته كظله طيلة عامين كاملين،  تم ذلك بفضل تجربة التمشي معه يوميا بعد العصر يقاسمني في هذا المشوار الدكتور شريف بشير فكنا ننتظره أمام سينما حمورابي وننطلق معا من أقصى الدواسة إلى أدناها ثم ننعطف يمينا حتى المتحف ثم يسارا من تحت نفق الإعدادية الشرقية مارين بتمثال أبي تمام ثم نجتاز الشارع باتجاه الكورنيش حتى نصل الجسر العتيق ثم نجتازه وننعطف يسارا بمحاذاة النهر والكازينوهات المتناثرة عليه حتى نصل إلى نفق الجسر الخامس ثم نعود أدراجنا من الطريق نفسه حتى نوصله إلى باب بيته. أحيانا كان يجلسنا في إحدى هذه الكازينوهات فيسقينا الشاي أو البارد، وكان لا يسمح لأحد منا مطلقا بأنْ يمد يديه إلى جيبه،  ولا حتى ذلك الرجل المدعو (أبو حسين) الذي كان يتمشى معنا –أحيانا- والذي كان الدكتور عمر يكن له الاحترام والتقدير.

    كان يحب التمشي معي ومع الدكتور شريف لأننا وعلى حد وصفه لا نتعب على عكس الدكتور هلال محمد جهاد الذي لا يجاريه في المشي ولهذا لما أصيب بالتهاب في عصب قدمه اليمنى وتوقف عن المشي حتى تعافى كان يقول: ما حسدني إلا هلال -على سبيل النكتة طبعا-

قال له الدكتور جليل رشيد رحمه الله يوما وكان رئيس لجنة مناقشتي للماجستير د.عمر تبناني كما تبنيت صالح كي اكتب دراسة مثل دراسته،  قلت له هذا تواضع العلماء يا أستاذي هكذا كان تأثير دكتور عمر في طلبته وزملائه

    انتقل عمر الطالب إلى كلية التربية، وتعينت مدرسا في كلية المعلمين،  وسافر أخي وصديقي د.شريف إلى اليمن،  وأصبحت سنوات الحصار أكثر قسوة فانفضت شراكة المشي، لكني لم أغادر عمر الطالب، فاستأذنته بدخول محاضراته للدكتوراه برفقة طالبها الوحيد في حينها عمار أحمد، فرحب بي ومازلت احتفظ بكل المادة التي أعطانا إياها.

     وعندما سافرت خارج القطر حملت معي معظم كتبه وعرفت به كثيرا من طلبتي وكان  يشاطرني في ذلك زميلي د.محمد جبارة حتى أن طلبتنا في ليبيا أصبحوا يعرفونه كما لو أنه أحد أساتذتهم.

    حبه لمدينته الموصل لا يحتاج إلى برهان فكان هائما بها وبمعالمها ولهجتها وتراثها وأزقتها وجامعتها ورموزها فكان يمثل هذه المدينة حقا؛ اسما وبيتا وإبداعا ويكفيه أنه أفنى حياته في خدمتها وقدم لها عصارة جهده على مدى خمسين عاما. ومع ذلك سأذكر برهانين صغيرين يعبران عن هذا الحب الكبير.

 

    سأل الدكتورُ عمرُ طلبةَ السنةِ الرابعةِ يوما فقال: أية مدينة تقرأ أكثر في الوطن العربي؟ ظن كثير منهم واهمين أنها بلدة من بلاد المغرب العربي بوصفه كان يعمل هناك فأثر وتأثر فطفقوا يتكهنون يمينا وشمال،  لكنه قاطعهم قائلا: الموصل.

 

    كنا نتمشى ذات يوم فنقد احد أدباء الموصل الراحلين نقدا سلبي،  قلت له يا دكتور في ذهني صورة مثالية لهذا الأديب أخذتها عن مقالتك عنه في عدد الأسبوع الماضي من جريدة الحدباء،  قال لي: اعتراضك حلو، لكن إذا أنا ما اكتب عن أدباء الموصل هكذا فمن ذا الذي يكتب عنهم.