www.omaraltaleb.com

 

عبقريـة المكـان .. استذكـارات مـن سنـوات صاخبـة

مدرس بمواصفات ساحر وأديب لا تمس الفوضى حياته

سعد الدين خضر

الزمان /1955-957ا / والمكان هو هو... مدينتنا الموصل.. حيوية النهوض.. وعبقرية المكان ، يا لذلك الزمان البهيج وتلك السنوات الصاخبة !؟؟ يا لها من حقبة قادتنا إلي دهاليز الثقافة والسجون ومعسكرات التجنيد (الإجباري) في معقل راوندوز ومعسكر السعدية..!! راوندوز في أربيل لطلاب الثانويات، والسعدية في ديالي لطلبة الكليات، شباب يافع هنا وهناك.. يساقون الي ساحات التدريب، ويحالون إلي المحاكم العسكرية، يمنعون من الاتصال بأهلهم وذويهم.. حتي جاءت وزارة (فخامة) علي جودت الأيوبي الموصلي فأعادتنا جميعاً إلي مقاعد الدراسة...!!
ها قد عدنا إلي (الثانوية الشرقية) قلب الحركة الثقافية وبؤرة النشاط الفكري في الموصل .. يومها كانت (الشرقية) صرحاً من صروح الوطنية والثقافة، في تلك الأعوام 1955- 1957 ..، فوجئنا نحن طلبة الشرقية بدخول ثلاثة مدرسين جدد، لم نعرفهم من قبل .. ثلاثة مدرسين من طراز خاص غير مألوف في التعليم آنذاك! ثلاثة رجال أثاروا لغطاً وهمساً.. بين مستهجن ومترقب وراضٍ... هكذا كان موقف الطلبة.
المدرسون الثلاثة هم :
- أبو الإنكليزية - هكذا كنا نعّرف المدرس - (عبد الواحد لؤلؤة)
- أبو العربية (عمر محمد الطالب )
- أبو الإنكليزية - أيضاً (يوئيل خمو)
هكذا قدم نفسه ، قبل أن يُعرف باسم الدكتور يوئيل يوسف عزيز..!!! كانت مرحلة الدراسة الإعدادية تنتهي بالصف الخامس (العلمي أو الأدبي أو التجاري)..، تولي عبد الواحد لؤلؤة تدريس الإنكليزية للصفوف المنتهية بطريقة لم يألفها الطلاب ، أخبرني صديقي وعد محمد محمود أن هذا المدرس كأنه ساحر !!! يدرس اللغة الإنكليزية بأسلوب جديد فريد ، ورغم أنه كان يتعالي علي الطلاب ، وأنه كان معتداً بنفسه حتي ليبدو وكأنه فوق طاقاتهم وقدراتهم .. إنه بمستوي أستاذ جامعي .. وهكذا كان فعلاً وأصبح الدكتور عبد الواحد لؤلؤة من أقطاب الأدب والترجمة فضلاً عن التعليم الأكاديمي .
أما الأستاذ يوئيل يوسف عزيز، فقد تولي تدريس الصفوف الأدبية المنتهية، وقد درّسني شخصياً كان هادئاً، يتكلم ببطء ، يختار الجمل القصيرة المفهومة، لأن عربيته لم تكن بمستوي إنكليزيته!
أما عمر الطالب، فقد تولي تدريس اللغة العربية والتربية الدينية للصف الرابع الأدبي بمختلف صفوفه، كما قام بتدريس مادة (الاقتصاد السياسي) للصف الخامس الأدبي المنتهي. وكانت هذه المادة من المواد الصعبة التي يخشاها الطلاب في الامتحان الوزاري ، وكانت ثمة منافسة بين الإعدادية المركزية والثانوية الشرقية... وكان الأستاذ هاشم سليم الطالب يدّرس الاقتصاد في المركزية. وعمر محمد الطالب يدرس الاقتصاد في الشرقية.. وبذلك اتخذت المنافسة بُعداً شخصياً وعائلياً !!
نجح عمر الطالب في تدريس الاقتصاد، وتفوق بنتائجه علي الإعدادية المركزية، وقد حقق كاتب هذه السطور درجة 76 في الاقتصاد السياسي في الامتحان الوزاري وكانت أعلي درجة في المادة في مدارس لواء الموصل آنذاك..، وكان ذلك مبعث فخر أستاذي عمر الطالب بي وتوثيق صلته معي ودعوتي لزيارة مكتبته في بيته بالطيران (أرقي أحياء الموصل) كانت تلك هي بدايات الزمالة الثقافية والصداقة الشخصية التي ربطتني بالمرحوم عمر الطالب حتي وفاته.
لم أكن وحدي أتردد علي مكتبة عمر الطالب في بيته لاستعارة الكتب والاطلاع علي أحدث الإصدارات والمجلات.. كان معي كل من أنور عبدالعزيز ومؤيد معمر وعبد الإله الحمداني وعبد الجبار حسن.. وغيرهم.
وتمضي الأيام والأعوام..، وإذا بي وجهاً لوجه أمام أستاذي الدكتور عمر الطالب في الكازينو السياحية التي أقيمت عام 1970-1971 علي ركن من أركان حديقة الشهداء في الموصل، الركن الذي تشغله اليوم شعبة البستنة والحدائق في بلدية الموصل وكان متعهد الكازينو ومديرها عبد الغني سليمان الفحل الذي كان يعتد بالأدباء والفنانين ويحترم جلساتهم... وأصبحت المقهي السياحية يومذاك مقهي الأدباء وملتقاهم. ومرة أخري ودائماً تمضي الأيام والأعوام، وتجمعني وأستاذي وصديقي عمر الطالب مجامع .. مجامع ثقافية ومنتديات ومراكز وقاعات ومحاضرات... جمعتنا مقرات اتحاد الأدباء ودور الثقافة الجماهيرية ودوائر الإعلام الداخلي ومجلة (الجامعة) والمركز الثقافي والاجتماعي لجامعة الموصل ذلك الصرح المعماري المقام علي رابية من روابي (القاضية) ضاحية الريف الموصلي.. من منا لا يتذكر المركز الثقافي لجامعة الموصل.. ذلك المعمار الفريد الذي كان يضم القاعات والحدائق وغرف الضيافة والمطعم وقاعة السينما والموسيقي.. مجمع فريد هدموه، وبهدمه فقدت الجامعة معلماً من معالمها لم يعوض حتي اليوم ويا للأسف!!؟ جمعتنا وعمر الطالب قاعات وقاعات.. ومحاضرات وعروض.. وتلك القاعة الأنيقة الساحرة قاعة المتحف الحضاري بالموصل. وكانت العروض المسرحية تتوالي علي قامة أبن الأثير، وقاعة الربيع، وقاعة النشاط المدرسي في التربية وقاعات جامعة الموصل والمركز الطلابي فيها.. وفي جميع هذه القاعات كنا نجد عمر الطالب مشاهداً ومراقباً ومعلماً وناقداً.. نكمل حديثنا معه في الطريق إلي بيته.. وفي بيته!! ثم كانت أخيراً لقاءاتنا معه في مقر جريدة (الحدباء) في حي الدندان وكان عضوا في أسرة تحريرها.
أما الحدث الأجمل في علاقاتنا فقد كان تلك الندوة الأسبوعية المنتظمة التي تجمعنا في دارته العتيدة العامرة في حي (الطيران) الهادئ الساحر، نعم.. فقد شهدت مطالع سبعينات القرن الماضي لقاءات أسبوعية دورية متصلة بدأت أيام الأحد من كل أسبوع.. ثم أصبحت أيام الخميس.. جلسة ثقافية حية يحضرها بعض أدباء الموصل ومثقفيها وفنانيها، أتذكر منهم الدكتور عماد الدين خليل والدكتور يوئيل يوسف عزيز، والقاص أنور عبد العزيز، والشاعر ذنون الأطرقجي، والكاتب عبد الباري عبد الرزاق، وصديق الأدباء يوسف البارودي...، وكان يحضرها أحياناً الشاعر أمجد محمد سعيد والشاعر معد الجبوري والروائي محمود جنداري والمسرحي شفاء العمري والفنان التشكيلي ستار الشيخ.. ومعذرة لمن نسيت، وفي تلك الندوة التقينا لعدة مرات بكل من الدكتور داود سلوم والدكتور محسن غيّاض وكلاهما من بغداد. كان الدكتور داود سلوم صديق عمر الطالب ورفيقه في السفر إلي الهند، أما الدكتور محسن غيّاض فكان زميل دراسة عمر الطالب في القاهرة.. وقد أفاض كل منهما بالحديث عن ذكرياتهما مع عمر الطالب في تلك الجلسات وفي سفرات ربيعية موصلية قمنا بها جميعاً معاً.
كنا نعلم أن الدكتور عمر الطالب كان يكلف صديقه الدكتور يوئيل يوسف عزيز كلما أوفد إلي بريطانيا أن يجلب له مجموعة من أحدث أفلام الفيديو العالمية، ويدفع له بالعملة الصعبة ثمنها مقدماً وكان الدكتور يوئيل كثير الإيفاد والاستضافة من قبل الجامعات الإنكليزية..، وهكذا امتلك الدكتور عمر الطالب أكبر مكتبة أفلام فيديو في الموصل.. وكان يتباهي بأنه الأول في امتلاك أروع أفلام الفيديو العالمية.. يليه هشام صباح فخري... هكذا سمعناه !! كان ذلك عام 1982 وكان في بيت عمر الطالب أكثر من جهازي فيديو، ربما أربعة أجهزة.. فكلما تعب جهاز تحول إلي الآخر... وهكذا شاهدنا في جلساتنا في بيته مجموعة من أروع الأفلام والروايات.. منها مثلاً (صائد الغزلان) (الرؤيا الآن) (كلاب من قش) (الدكتور زيفاكو) (لورنس العرب) (امرأة و19 بندقية) و (التانكو الأخير في باريس).. وغيرها. وعندما سافر الدكتور عمر الطالب للتدريس في المغرب كانت تصلني منه رسالة شهرية ينقل لي فيها نشاطاته التدريسية والثقافية ورحلاته وسفراته..، وهكذا كنت أفعل حيث أبادله الرسائل التي تحمل أخبار الأصدقاء في الموصل..، ومرة أرسل لي رقم هاتف الفندق الذي سكنه قبل عودته للعراق فاتصلت به من تلفوني الأرضي في بيتي في حي الزهور وتحدتنا ... ويعرف بذلك جميع الأصدقاء .
عمر الطالب كتب سيرته بنفسه.. كتبها من خلال روايته (خمسينات أضاعها ضباب الأيام) ومن خلال جميع أعماله...، كان عمر الطالب نبوئياً يستشرف آفاق الثقافة وآفاق
الغد..، كان هو البشير الثقافي الذي يتحسس دورة الزمان ويعيشها.. لا أحد يقدر أن يكتب سيرة عمر الطالب وحياته مثلما كتبها بقلمه...
المبدعون مزاجيون، وعمر الطالب مزاجي من طراز رفيع..!! فقد هندس حياته وعلاقاته كما يهندس المعمار البناء.. لم يكن عمر الطالب مزاجياً في الطبائع والعادات فقط، بل كان مزاجياً في الثقافة والفن، له اهتماماته الخاصة في الفن والأدب، وفي النقد الأدبي بالأخص، كان مدرسة في القراءة والكتابة والحفظ والأرشفة والتدوين.. كان يجاهر بآرائه ولا يخفيها ..! مرة سألته عن رأيه في تلك المغناة الرائعة، قصيدة (الفن) التي غناها محمد عبد الوهاب استرضاء للملك فاروق يوم غضب عليه لأنه غني قصيدة أحمد شوقي في مدح الملك فيصل الأول ملك العراق، ومطلعها:
يا شراعاً وراء دجلة يجري
بدموعي تجنبك العوادي
قف علي الماء كالمسيح رويداً
وأجري في اليم كالشعاع الهادي
حتي يقول:
ملك الشط و الفراتين والبطحاء
أعظم بفيصل والبلاد
ويومها ، كلف عبد الوهاب الشاعر صالح جودت ليكتب قصيدة في مدح فاروق ملك مصر ، فكتب الشاعر قصيدة باللهجة المصرية الدارجة تتغني بالفن وأهل الفن، ومطلعها:
الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها
نجوم تغري النجوم من حسن منظرها
حتي يقول:
الفن مين يعرفو غير اللي عاش في سماه
والفن مين انصفو غير كلمة من مولاه
والفن مين شرفو غير الفاروق ورعاه
ومع ذلك لم يرض فاروق عن عبد الوهاب ولم يمنحه رتبة (البكويه) ..، بينما منحها لمن هم أقل شأنا منه في الفن مثل (سليمان بك نجيب ) و (يوسف بك وهبي) ..، سألت عمر الطالب عن رأيه في المقدمة الموسيقية لقصيدة (الفن) الممنوعة هذه الأيام، وتعتبر من روائع الموسيقي العربية... فأجابني أنا لا تهمني من موسيقي عبد الوهاب وأغنياته إلا تلك التي لحنها للمطربة ليلي مراد... ثم أردف، أنا من عشاق صوت ليلي مراد ومن المعجبين بأغانيها وأفلامها... وأحفظ الكثير منها..!! وواضح أن مرحلة صعود ليلي مراد في (الأربعينات والخمسينات الماضية) كانت مرحلة شباب عمر الطالب.. ولعل ذلك كان وراء أعطاء ليلي مراد حيزاً واسعاً في منجزه (موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين) بل أنه اعتبرها موصلية تجاوزاً.. وحباً !!؟..

وختاماً واعتزازاً بكل ما ترك عمر الطالب أقول أنه لم يكن عراب الثقافة الموصلية بل كان أكبر من ذلك، وما كان عمر الطالب ديناصور الثقافة الذي انقرض. حاشاه من ذلك. إنه ابن المدينة ومثقفيها الفذ.. الحاضر بيننا دائماً.. الحاضر بعشرات الكتب والدراسات والمقالات والمحاضرات.. إنه حاضر بيننا أكاد أسمعه واراه وقد (عنكز) نظارته علي أرنبة أنفه يتطلع إلينا من فوقها.. متسائلاً أو مستنكراً..!!

هامش:
في صيف عام 1982 كنت وعائلتي في اسطنبول وفي مساء أحد الأيام، كنا نتجول في منطقة (آق سراي) وشارع (بايزيد) .. فإذا بي أمام كل من الدكتور عمر الطالب وأنور عبد العزيز ويوسف البارودي .. ولم يكن أحدنا يعرف بسفر الآخر إلي تركيا .. وعندما التقيتهم .. صاح أنور ويوسف .. الله .. والله عجيب .. فقلت لهما ما العجب..!؟ فأجابا: قبل نصف ساعة قال الدكتور عمر.. يا جماعة أنا علي يقين من أننا سوف نلتقي سعد الدين خضر هنا في إسطنبول .. فقلنا له (يمعود سعد الدين في الموصل .. أش راح يجيبو هنا في اسطنبول) !!؟
والحقيقة أنني لم أكن أعلم بسفر الأصدقاء ولا هم كانوا يعرفون بسفري المفاجئ .. فقد سافرت خشية منع السفر وغلق الحدود أيام حرب إيران .. ذلك مثال على الحدس التنبؤي للدكتور عمر الطالب .