الصفحة الرئيسية . موقع الدكتور عمر الطالب

 

 

 

 

الأستـاذ الدكتـور عمـر محمـد الطالـب يعري أنصاف المثقفين

 

 

الراحل الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب

 


بشار عبد الله ـ قُلنا في الثمانينات والتسعينات أن كماً كبيراً من النتاج الثقافي والأدبي في العراق يحمل في داخله معاول هدمه.. كيف تعالج تصريحاً كهذا؟
الدكتور عمر الطالب
: إن ما قيل صحيح كل الصحة فان كماً من النتاج الثقافي والأدبي حمل في داخله معاول هدمه في عقدي الثمانينات والتسعينات ويعود السبب في ذلك إلى الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات وكانت سبباً في إنتاج كم هائل من الروايات والقصص والأشعار التي كتبتها أقلام لا علاقة لها بالأدب لا من قريب ولا من بعيد وقامت وزارة الثقافة والأعلام في وقتها بطبعها دون الالتفات إلى مستواها الفني لأن الهدف الأساس من نشرها هو الأدب التحريضي الدعائي دون الالتفات إلى مستوى السرد أو المعالجة للموضوع.
فلو حاولنا أن نقوم بدراسة جميع الروايات التي صدرت في تلك الفترة من الحرب لوجدناها فضلاً عن غزارتها بحيث تعادل كل ما كتب من روايات في العراق منذ عام 1919 حيث ظهرت (الرواية الايقاظية) لسليمان فيضي الموصلي والتي عدها بعض النقاد رواية والبعض الآخر مسرحية وأعددتها (مسرواية) في كتابي (الرواية العربية في العراق) الصادر عام 1971 لأن الجزء الأول منها يقوم على الحوار التعليمي ويعتمد الجزء الثاني على السرد وحتى ظهور أول رواية عن الحرب لعادل عبد الجبار (الرقص على أكتاف الموت) نجد ان ما صدر في العراق خلال السنوات الثمان يعادل ما نشر في ست عقود، فضلاً عن تشابهها فإذا قرأت رواية واحدة منها أغنتك عن قراءة الروايات الأخرى، فجميع الشخصيات من قوميات ومذاهب وأديان موجودة في العراق على اختلافها وجلهم من أهل القرى (الهرقليين) مشتاق إلى زوجته أو حبيبته، ولكنهم خلف الساتر في الجبهة يحصدون الأعداء حصداً كما يحصدون سنابل القمح في حقولهم وتأتي النهاية بالانتصار وهزيمة الأعداء والاستيلاء على مواقع جديدة وتمتلئ صدور المقاتلين بالأوسمة والنياشين وقليل منهم ينال الشهادة السعيدة ويحظى أهله بالعطاء من قبل السلطة والأرض والسيارة والعطايا ومجالس العزاء الفخمة التي تصرف عليها الدولة. وليس الأمر قاصراً على الرواية التي أخذت الحصة الأكبر في تلك الفترة بل تعدتها إلى القصة والشعر.

إن الأدب الدعائي التحريضي بقدر ما هو مفيد إذا كان أدباً إنسانياً كما نجد في رائعة شولوخوف (الدون الهادئ) ورائعتي همنغواي (وداعاً للسلاح ولمن تقرع الأجراس) ورائعة باسترناك (دكتور زيفاكو) وروائع ريماك ولاسيما روايته (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية) ورائعته الأخرى (وقت للحرب ووقت للحب) وجدنا أن أدب الحرب العراقي خال من السمة الإنسانية وملئ بالمواقف (الدونكشوتية) وقد سمعت المسؤول عن دار الشؤون الثقافية في العراق في مجلس أدبي أقيم تكريماُ لزيارته الرباط عام 1987 (إن روايات الحرب سببت لنا خسائر كبيرة لذا نقدمها هدايا للوفود القادمة إلى العراق في المناسبات أو المهرجانات ولاسيما مهرجان المربد وإن إحدى الروايات لم يبع منها غير رواية واحدة). ووجدت مكتبة قديمة في الرباط مليئة بالكتب العراقية في الثمانينات باعها من أهديت إليهم بثمن بخس لهذه المكتبة التي كانت تبيع بدورها هذه الكتب بثمن بخس.
ويمكن أن نستثني القليل جداً من الروايات والقصص القصيرة والقصائد الشعرية ولا أريد أن أضرب أمثلة على ذلك لندرتها. وما أن تنفس العراقيون الصعداء بعد انتهاء الحرب عام 1988 حتى كان الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 وظهرت كتابات لتمجيد هذا الاجتياح وان لم يظهر في بادئ الأمر إلا روايات قليلة حتى أصدرت وزارة الثقافة والأعلام للمثقفين أن يكتبوا عن (أم المعارك) فتدافع الكتاب الانتهازيون إلى كتابة الروايات الدعائية الساقطة من الناحية الفنية وصدرت دواوين شعرية لا يعرف ناظموها تركيب جملة صحيحة وأجزل العطاء لمن يقدم مثل هذا الأدب في مدح الذي تضمه ومنح شعراء لم يحلموا بنشر قصيدة الملايين من الدنانير ودور السكن والوظائف الرفيعة والتسلط على رقاب المثقفين الذين لم يرضوا لأنفسهم النزول إلى هذا الدرك، وكتبوا وضموا ما كتبوه لينشر في يوم يتخلص فيه العراق من أنصاف الأدباء، وحثالات المثقفين الساديين الذين لا يعرفون غير الوشاية والتجسس والسرقة والتهريب والحصول على مناصب لا يستحقونها وهو ما أدى بتدهور الثقافة في العراق خلال عقدي الثمانينات والتسعينات أن جعل غير الأدباء أدباءً رغماً عن الجميع وهروب الأدباء الحقيقيين من العراق وهجرة المثقفين إلى الخارج وسيطرة السلطة والعقاب الذي يصل إلى حد الموت عند نشر كلمة لا ترغب السلطة في نشرها وتشجيع شعر المديح الانتهازي وفرض موضوعات معينة على من تبقي من الكتاب داخل العراق وإذلال من لا يستجيب لهم من الأدباء والمثقفين وفصلهم من وظائفهم ولصق تهم بهم هم براء منها كل ذلك أدى إلى أن يحمل أدب وثقافة ما أنتج في الثمانينات والتسعينات بذور موته في داخله لأنه أدب تكتبه أنامل غير متمرسة على الكتابة وغير صادرة عن عقل واع وعاطفة صادقة أو حباً بالإنسان وانعدام الأدب الإنساني ليحل محله أدب شوفيني انتهازي وصولي يكره الصدق ويؤمن بالكذب والدجل لذا أسميته
أدب الدجل في إحدى مخطوطاتي التي ما زالت تنتظر لتظهر للناس معلنة الأدب الصادر من القلب آنذاك وهناك العديد من المخطوطات التي تنتظر لتصبح كتباً، لم يجرؤوا على نشر كتبهم وأدبهم لأنها لا تتماشى والخط العام فهم غير قادرين على نشرها في الداخل لمنع الرقابة لها ولا في الخارج لأنهم يخشون على أنفسهم من الاغتيال أو التنكيل بأهلهم، ففي مثل هذه الظروف يستحيل ظهور أدب إنساني حقيقي وهكذا أضحت أطنان الورق المطبوعة في العقدين الماضيين لا تصلح إلا للف (السندويشات) والمشتريات أو صنع الأكياس، وأثرت أثرا سلبياً كبيراً على القارئ العراقي الذي كان أكثر العرب شغفاً بالقراءة حتى قيل أن مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ، هذا ما كان قبل الثمانينات أما الآن فلا تجد أحداً يقتني كتاباً إما لرداءة الكتب أو لأنه لا يملك نقوداً يشتري بها كتاباً مهماً رخص ثمنه فملء البطن (بالعلف الحيواني) الذي كان يوزع بالحصة التموينية لإقامة أود العراقيين كي لا يموتوا جوعاً، أولى من شراء كتاب أو البحث عن الثقافة عند العراقي المهان بالذل والجوع والتضخم وبناء القصور وتوزيع السيارات الفارهة على من ينال رضى السلطة وتبديد ثروة العراق الضخمة للعملاء والانتهازيين ممن يزورون العراق من خارجه ويحصلون على عقود بترول ليعيشوا برفاه ونعيم على حساب الشعب الجائع الذي تناوبته الأمراض والمهانة والذل من كل جانب.

 

اقرأ الحوار كاملا