العودة للصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

 

العجائبي في رواية الطريق إلى عدن


د. فيصل غازي النعيمي
كلية التربية/ اللغة العربية


ملخص البحث
تعتمد رواية (الطريق إلى عدن) للأديب عمر محمد الطالب على استثمار معطيات متعددة متجهة في ذلك اتجاهين، يسعى احدهما لإبراز الآخر وإكماله، وهما: التأصيل والتجديد، وتعد العجائبية إحدى أهم التقانات التي حاول الكاتب الإفادة منها وتطويعها في رسم حدود جديدة للتقانات الحديثة للرواية العراقية.
وشكلت هذه الظاهرة- التي تعني القطيعة مع العالم والتقاليد المألوفة والخرق المستمر للمنطق والقوانين والنواميس الطبيعية- معلما بارزا في رواية (الطريق إلى عدن) لا يمكن تجاهله، فهذه الرواية ذات الوجوه المتعددة (الفلسفية/ التأملية/ الغرائبية/ الواقعية) تطرح الكثير من المقولات عبر فضائها الحكائي، مما جعلها تمثل نقطة تحول في التاريخ الادبي للكاتب وكذلك على مستوى مسار تطور الرواية العراقية المعاصرة.

تحديدات أولية
أ. العجائبي مصطلحا ومفهوما
تأرجح مفهوم العجائبية بين مصطلحات مختلفة من أهمها: الفنتاستك/ الفنتازيا/ الأدب الاستيهامي/ الغرائبي/ السحري، وعلى الرغم من الفروقات الواضحة بين هذه المصطلحات الا ان الجامع المشترك بينها دلالاتها على الخارق واللامألوف والعجيب.
وللعجائبية صلات بمفاهيم أخرى، فهي لا تقصر علاقتها على الأدب فحسب بل تتعداه إلى بقية المعارف الإنسانية ولها ((مسارات متعددة تستقطب كل ما يثير ويخلق الإدهاش والحيرة في المألوف واللامألوف))(1).
ويتحدد مفهوم العجائبي بأنه يمثل خروقات للقوانين الطبيعية والمنطق، ويعمل على تأسيس منطقه الخاص به، ويعكس في تجلياته المتباينة منطق الحياة وقوانينها(2).

ب. شروط العجائبي وأشكاله:
يشكل العجائبي قطيعة مع العالم الذي ينتمي إليه وبروزا مفاجئا ((لما لا يمكن قبوله في قلب الشرعية اليومية التي لا تتغير. لقد ضبط تودروف الشروط الأساسية التي تحدد شعرية النص العجائبي، وأولها إرباك التشخيص التقليدي (الواقعي) في علاقة السارد بقارئ النص عندما يجبر النص قارئه على اعتبار عالم الشخوص عالم أشخاص أحياء وعلى التردد بين التفسير الطبيعي للأحداث والتفسير الخارق للطبيعة، أي ان القارئ يشكك في صحة الخبر عن العالم ولكنه في نفس الوقت يظل غير قادر على تفسيره))(3).
إن محاولة تودوروف الجادة في ضبط ماهية العجائبي أفرزت تصورا دقيقا لهذا المفهوم وهو ان العجائبي عبارة عن ((حدوث أحداث طبيعية وبروز ظواهر غير طبيعية خارقة تنتهي بتفسير فوق طبيعي))(4). ويتجلى العجائبي في المتخيلات السردية على أشكال عدة من بينها(5):
1. ارتباطه بالماضي والغيبي والكرامات والمعجزات.
2. يعمل على تبئير الإنسان والمكان والزمان.
3. اتخاذه الأحلام والرؤى سبيلا للبناء الفني.
4. اعتماده على خلق المفارقة والسخرية من المألوف الواقعي عبر المكاشفة والخارق والمسخ والتحول والتضخيم.

جـ. العجائبي بين التقانة والوظيفة:
يتشكل العجائبي في المدونات السردية ضمن مستويين اثنين قد يلتقيا أو يتفارقا، الأول انه يوظف على شكل بنية جزئية ضمن البناء الحكائي العام، وهذه البنية الجزئية تكون لها أهداف واضحة ومحددة في النص السردي، وتتضح مرجعياتها التي اعتمد عليها عند اشتغالها بوصفها وظيفة.
أما الثاني فهو تحول العجائبي إلى تقانة وبنية كاملة تحتوي باقي عناصر الحكي وتوجهها وتسيطر عليها ضمن رؤية فنية معينة. والمستويان تحققا في نص رواية (الطريق إلى عدن) إلا ان الثاني كان له الحضور الأبرز في جسد الرواية وشكل ظاهرة بارزة لا يمكن لدارس هذه الرواية تجاهلها بسهولة، فهي رواية فلسفية، تأملية، عجائبية، واقعية، تطرح الكثير من المقولات عبر فضائها الحكائي المتخيل مما جعل منها تمثل نقلة واضحة وتحولا فنيا بارزا في مسار الرواية العراقية المعاصرة، من حيث تعاملها مع معطيات الواقع عبر رؤية فنية واضحة استثمرت مقولات اللامعقول وخرق المألوف وكسر نمطية الواقع لإبراز التحولات الاجتماعية والتاريخية والثقافية في بنية المجتمع العراقي.

اولا : عجائبية الشخصية:
لمفهوم الشخصية الروائية دلالة واضحة في التاريخ الفني والثقافي للمتخيلات السردية، إذ انه مثل نقطة تحول وقطيعة مع التقاليد الحكائية المعروفة (الملحمة- الحكايات الشعبية) وانتقالا من البطولة بمعناها الواسع والمطلق نحو انسنة الانسان عبر آفاق واقعية تجاوزتها في احيان الى العجائبية.
ان الشخصية الروائية بكل تمفصلاتها وتجلياتها ما هي الا عنصر تخييلي يتواشج او يتقاطع مع مفهوم الشخصية الواقعية على وفق الرؤية الفنية التي تتحكم في النص السردي.
والشخصية العجائبية ما هي الا مساحة مشتركة يجتمع فيها الواقع واللاواقع وان طغى الاخير عليها، وهي تقنية فنية استخدمتها الرواية الحديثة لتعبر عن ازمة الانسان المعاصر، لذلك جاء البناء الفني لهذه الشخصية على وفق رؤية جديدة لا تحتفي بالابعاد الداخلية والخارجية فحسب، انما تعمل على تقويض الصورة الثابتة للشخصية والعمل على هدم مرجعياتها الواضحة ومن ثم اعادة تشكيلها بصورة غرائبية تتجاوز قوانين الواقع والطبيعة. ويتم في الروايات العجائبية ((وصف مخلوقات غير مرئية، او تحويل الشخصيات المرئية الى شخصيات غير مرئية، وتعمل هذه المخلوقات (...) على خرق العرف الطبيعي وخلق قوانين جديدة، وتنحو بعض الروايات العجائبية (...) الى احياء الكائنات غير الحية لخلق مشهد عجائبي يثير الدهشة، ويسري الوصف فيها على الانسان والحيوان والنبات))(6).

أ. ابعاد الشخصية:
في الروايات العجائبية يحصل انزياح عن الواقع لحساب اللاواقع المدهش، وتتغير ثوابت كثيرة من اهمها الابعاد الثلاثة المعروفة للشخصية وهي(7):
1. البعد الخارجي الذي يتعلق بالكيان المادي المتصل بتركيب جسم الشخصية أي المظهر العام.
2. البعد الداخلي الذي يتعلق بالاحوال النفسية والفكرية للشخصية وما ينتج عنها من سلوك.
3. البعد الاجتماعي الذي يتعلق بالظروف الاجتماعية والمركز الذي تشغله الشخصية في المجتمع.
ان الغاء معطيات الواقع وتجاوزها والعمل على تأسيس معطيات جديدة لخلق عالم مواز للعالم المحسوس هو احد اهم شروط صنع الشخصية العجائبية عن طريق التحول والاختفاء والامتساخ واستثمار المعطيات الغيبية والعوالم اللامرئية وربط كل ذلك بالحدث العجائبي الذي ينبئ عن الشخصية وعن تصرفاتها.
في رواية (الطريق الى عدن) تتجلى شخصية (بشير) بوصفها اهم الشخصيات في عالم الرواية لما تحمله في تركيبها من تناقضات وصفات تتراوح بين العدمية والعبثية والشر المطلق والفرد الذي يعمد الى تقويض اخلاقيات المجتمع.
ان عملية بناء شخصية (بشير) تتوخى أن تجعل منه رمزا –عبر المعطيات العجائبية والواقعية- لمرحلة كاملة في التاريخ العراقي المعاصر، تحول الفرد فيها من انسان الى مسخ ويأتي الوصف اللاوقعي والبعيد عن المعايير الطبيعية ليفضح البعد اللاانساني والإجرامي في تركيبة الشخصية، وهي تبدو كذلك في نظر اقرب الناس اليها ((دعا عبدالسلام اخاه بشيرا ليدفع السيارة معه، نظر اليه بشير نظرة غريبة، بدا له اخوه للحظات كأنه صورة فوتوغرافية لشبح مخيف، حدق احدهما في الآخر، بدا له وجه بشير يشبه وجوه الكائنات الخرافية التي تسكن كهوفا تحت الارض وتقتات على لحوم البشر))(8).
تأتي عملية بناء الشخصية على مراحل، تؤكد كل مرحلة على ثيمة معينة، ترتبط بسابقتها لتتظافر هذه الثيمات فيما بعد في رسم معالم الشخصية العجائبية (بشير) الدالة في مجملها على الكراهية، لذلك يعمد الكاتب إلى إعطاء الشخصية بعدا آخر فضلا عن البعد الإجرامي وهو البعد الأخلاقي، عبر العلاقة المحرمة بين بشير وزوجة أخيه عبدالسلام (رواء) ((إنها امرأة شريرة رواء هذه منذ أوقعت عبدالسلام في حبائلها وها هي تصطاد الآخر، الله وحده يعلم كم من الرجال اصطادت هذه المرأة الداعرة))(9).
والملاحظ ان البناء العجائبي للشخصية الروائية لا يكون في الأوصاف الخارجية فحسب، انما بالانحراف عن الناموس الطبيعي للحياة، وهذا ما تؤكده تصرفات (بشير) عن طريق الزنا بالمحارم والقتل (قتل الام + قتل الصديق+ قتل الابن) وصولا الى القتل الجماعي ومن ثم الجريمة المنظمة عندما تجتمع سلطة الفرد وسلطة المؤسسات الرسمية على هدف واحد وهو تقويض البلاد. ويعطي السارد تفسيرا ابعد ما يكون عن المنطق وهو يوضح تصرفات هذه الشخصية المركبة المعقدة، عندما يعرض لاستذكار بعيد المدى عن علاقة بشير بالسحر وان السر في تصرفاته اللامنطقية يعود الى عوامل غيبية تتعلق بالسحر وعصاب خاص يتعلق بالشخصية وكراهيتها اللامحدودة للخير والناس، لذلك يأتي مشهد قتله لامه (امينة) بمساعدة (عبدالسلام ورواء) مرتبطا باجواء السحر وبوصف غرائبي وباحلام وتوهيمات تأخذ بعدا نفسيا معقدا يدل على القسوى والكراهية والدمار الشامل المتناص مع اشارات تارخية تشير الى تدمير العراق في فترات زمنية مختلفة، ان شخصية بشير تشير الى البعد الداخلي للدمار او (الدمار الذاتي) المتعالق مع الدمار الخارجي (حروب+حصار) الذي عمل على الفتك بالمجتمع العراقي ((تكلم بشير بما يكفي من العزم وشعر بكراهية نحو اخيه وزوجته فهو يزدريهما، ان القوة التي احس بها يوم ان سقته (الساحرة) التي كانت تسكن حي النبي دم الثور وهو يذبح، سقته دمه وهي تقول: اشرب ان هذا الدم سوف يجعلك رجلا يهابك الجميع. (وشربت. اعجبني الدم وطلبت المزيد وشربت) لم يترك بشير اثرا ولم يدع بصمة واحدة من اصابعه ترتسم على الوسادة او أي شيء قريب منها (...) قالت له الساحرة لتشرب دماء كثيرة وتعيش بسعادة، الا انك ستموت ايضا كما امت الاخرين، ضحك بشير من قولها واجابها: كل من عليها فان، وحلم احلاما عديدة وهو يقتل مرة بخوذة جنكيز خان ذات القرون ومرة بسيف هولاكو المغولي، ومرة يحرق مدينة (م) ويغني كما فعل نيرون بروما الا انه حلم كثيرا بكاليكولا الذي قتل امه وزوجته))(10).
ان بشيرا يتحول عبر أفعاله اللامعقولة (العجائبية- الإجرامية) ذات الطابع الانتقامي التدميري من مجرد شخصية مريضة نفسيا تعاني من عقدة فقدان الأب (الحماية – الحنان) إلى رمز على مرحلة كاملة من التدهور في البنية الاجتماعية وانحطاط كامل في السلوك الإنساني لذلك كانت الاستذكارات (الموضوعية والذاتية) القريبة والبعيدة مرتبطة بإشارات تاريخية ودينية تدل بوضوح على الخراب الذي نال العراق ومن ثم إشارات أخرى تعمق هذه الدلالة وتشير ضمن بعد مستقبلي على استمرارية هذا الخراب.
في سلوك شخصية (بشير) الكثير من العجائبية المتأسسة على اللامنطق واللامعقول الذي يعالج قضية الخير والشر والصراع بينهما في أبعاد متعددة منها الاجتماعي والوجودي والتاريخي والديني، وهذا يتجلى في مشهد في غاية الغرابة وهو بعيد عن المنطق العقلي ويتناص مع قضية قتل البنات (الوأد) في الجاهلية، عند ما يقتل بشير ولده (خير الله) وهو ثمرة علاقته الجنسية اللاشرعية مع (رواء) ويبدو له هذا الفعل بأنه عين الصواب مما يدل على تبلد الأحاسيس الإنسانية وموتها لدى هذه الشخصية/ المسخ التي احتوت على كل المتناقضات والتغيرات التي طرأت على الفرد/ المجتمع العراقي نتيجة للتحولات السياسية الضخمة ولاسيما الحروب والحصار ((لقد أدرك بشير كرهه لخير الله منذ اخبرته رواء بأنه ابنه، كان كرهه اول الامر مجردا جدا، لقد أدرك فقط صدمة ان يكون له ولد لا يريده، ابن حرام، وان هذا الانتقال من العزوبة إلى الابوة نقلة خاصة قهرته، فولد العداء تجاه الطفل، عداء بدقة الماس وصلابته وكرم جوهره. انه خلاصة كل ما هو عدائي مكروه، كرهه للطفل جد نقي انه شعاع من عداوة جوهرية، شعاع اشعة فوق البنفسجية، شعاع قاتل (...) اتجه بشير بسيارته نحو طريق زراعي وبعد ان توقف محرك السيارة بدقائق، توقف بكاء الطفل، حمله بشير ورماه بين الأحراش دون ان يكلف نفسه عناء دفنه، مسح موجات العرق عن جبينه، احس ذلك الاحساس الذي يحمله الانسان وهو يقترب بوجل –بعد غياب طويل- من هواية محببة فارقها (...) ما اجمل الموت وما اعظمه، ما اكمله، ما اطيب التطلع اليه عندما يقتل الإنسان امه وصديقه وولده لسوف يغتسل الانسان من كل ما علق به في الدنيا من أكاذيب وقذارة وخزي، في اغتسال تام كله نظافة وانتعاش بهيج))(11).
ان الحدث العجائبي الدال على القسوة والكراهية المطلقتين يتولد في المشهد السابق عن ((المباينة بين القول والفعل))(12)، وتأتي هذه المباينة عندما يبدأ الخلط بين الاشياء والقيم، فقتل الام (الاصل) والابن (الامتداد) والصديق (الوفاء) هذه الافعال الاجرامية ذات النزعة التدميرية تصبح في المقطع النصي السابق دالا على الطهر والنظافة والبراءة والتخلص من الاكاذيب والاوهام والقيود الاجتماعية المزيفة، وبهذا تختلط الرؤى وتصيبها الضبابية في زمن الانحدار والانكسار وخيبات الامل، ويتحول بشير ويتعملق في هذا الزمن من مجرد إنسان (شاب بسيط فقير) الى تجسيد كامل للشر المطلق والكراهية المدمرة.
في خط سردي مغاير آخر تتجلى شخصية (أمينة) والدة بشير، رمزا للنقاء والصفاء وانموذجا انسانيا شديد الحضور، وعلى الرغم من التوصيفات الفسيولوجية التي يقدمها السرد لهذه الشخصية إلا ان الأهم في عملية بناء عجائبية الشخصية، هو موت أمينة، تلك الظاهرة التي شكلت تجاوزا لقيم انسانية وأخلاقية ودينية عندما قام الأبناء (بشير، عبدالسلام) وبمساعدة (رواء) بقتلها وخرق تلك القدسية المؤسسة على ثوابت أخلاقية وإنسانية.
ان وصف عملية الموت وانفصال الروح عن الجسد مثل تجاوزا واضحا لقانون العقل والمنطق وانفتاحا على عوالم الغيبيات وهذه العملية شكلت احد اهم مفاتيح النص الروائي، إذ ان عملية الموت أكدت على هشاشة وتفاهة الحياة وابرزت الوجه الحقيقي لها، وانبثقت عنها ثيمات مهمة في الرواية من أهمها الكراهية المطلقة واللارحمة والانحدار الواضح لعالم القيم، والتأكيد على خيبة الأمل (فيما يخص امينة) في زوجها واولادها –على الرغم من تضحياتها- والعدالة المفقودة على الارض وانتقالها من عالم السكون التام على الرغم من فوضويته إلى عالم الحركة والحرية، فجاءت عملية وصف موتها وقدرتها على اختراق الحواجز والحدود المادية لتدل على ذلك ((نهضت أمينة من فراشها صباحا مع صلاة الفجر، وجدت ولديها وزوجة ابنها يحيطون بها، لم ينهض جسدها، دهشت لضغط عبدالسلام لوجهها بالمخدة سألته: ماذا تفعل، أنا واقفة خلفك؟ (يبدو ان احدا لم يرني او يسمعني) نادتهم امينة واحدا واحدا، لا احد منهم يسمعها او يراها، خرجت الى الزقاق وذهبت الى دار ام هاني، طرقت الباب فلم يجبها احد، وحينما تقدمت اكثر نحو الباب وجدت نفسها عبرت الباب الى المجاز، دهشت امينة عندما وجدت نفسها تعبر الحواجز، وجدت نفسها قادرة على الطيران ايضا، فهي تشعر بنفسها خفيفة مثل ريشة، وبقفزة واحدة وجدت نفسها فوق السطح، حاولت إيقاظ ام هاني (...) خرج الرجال وبقيت النساء، دخلت المطبخ اردت ان اشرب فنجان شاي الا ان نفسي عزفت عن ذلك، احسست بظمأ شديد الا انني لم استطع شرب الماء، فاسرعت وراء سيارة الاسعاف لأرى أين سيذهبون بي ولماذا؟ وأخيرا عرفت بعد أن أدخلني الأطباء غرفة التشريح، قال الطبيب الذي أجرى التشريح: ماتت مخنوقة))(13).
ويأتي وصف عملية الدفن وموكب الجنازة مكملا للصورة الكلية للشخصية ذات الابعاد العجائبية، وهذا الوصف دال على دهشتها الكاملة لموتها اولا ومن ثم تحولها الى كائن لا مرئي وحزنها وخيبة املها في أولادها عند معرفتها إنهم قتلتها ((بعد ان غسلتني امرأة لا تكف عن النشيج كفنوني ووضعوني في صندوق خشبي جاء به اتباع اسماعيل، ثم وضعوا الصندوق في سيارة الدفن وامتلأ الشارع المجاور للزقاق بالسيارات، لا بد انهم اتباع اسماعيل (...) وكانت سيارات ملونة تتبع جسدي ومنهم من يضحك داخل سيارته او يروي نكات بذيئة وانا وموكب امي نسير وراء نعشي. كنت انظر احيانا يمينا او يسارا الا انني لم ارغب النظر الى هؤلاء الناس المزيفين الذين يضحكون من الموت ويسخرون من القتل. سمعت ضابط الشرطة يقول: الشك يحوم حول أولادها))(14).
هناك نمط آخر من الشخصيات في عالم رواية (الطريق إلى عدن) ذات الطابع العجائبي تبرز بوصفها الخط (أو الحد) الفاصل بين الشخصيات الدنيوية –لا سيما لأمينة- والشخصيات الأخروية، وهذه الشخصيات تنبني في النص الروائي على شكل هلوسات وأحلام شيطانية ((عليك ان تهربي منهم و إلا آذوك لأنهم أشرار، سألت أمينة وكيف اعرفهم؟ أجابت الأم: من وجوههم الصفراء المتعرقة الصغيرة وعيونهم الحذرة دائمة التحديق بكل شيء يمر أمامهم لشدة خبثهم (...) إلا أن ضوءا باهرا لمع أمامي ورأيت رأسا يحدق بي بعينين مصفرتين، شعرت بالخوف وأنا ارتعد من رؤية الشيطان وأتباعه وسمعت أنينا آتيا من مكان بعيد، مشيت بأسرع ما أمكنني وابتعدت عن المكان المعادي إلا أن اصواتا مخفية مضت تناديني اصواتا مرتجفة عالية خانقة))(15).
ان نص رواية (الطريق الى عدن) وعلى الرغم من تقديمه لتوصيفات خارجية للشخصيات الروائية، إلا أن اهتمامه ينصب على مسألة في غاية الأهمية في النص العجائبي وهي تجاوز المألوف والعادي والنواميس الطبيعية للحياة والجمع بين الأشياء والموجودات المتناقضة والتأكيد على الفعل الخارق والغيبي للشخصية الروائية مما أضفى عليها أبعادا عجائبية تآزرت مع باقي مكونات الحكي في تشكيل الصورة الكلية للنص الروائي.

ب. نظام التسمية:
التسمية تعيين ينوب عن المسمى ((بعلامة صوتية او خطية او رقم))(16)، وهي - أي التسمية- عملية قصدية، وهذه المقصدية تتضح عند اختيار الكاتب لاسماء شخصياته وتصل المقصدية على وفق رأي (هامون)(17) حد الهم الهوسي الذي يتجلى في عملية اختيار الاسماء والالقاب.
تنتظم الاسماء في رواية (الطريق الى عدن) في نظام صارم يؤدي الى تعميق الدلالة بوجود عالمين متصارعين ومتناقضين ويكمل احدهما الآخر في الوقت نفسه (الواقعي والعجائبي)، وهذا النظام يتأسس على وفق حركتين رئيستين: (الاولى) حركة تناسب وتطابق تؤدي فيما بعد الى مفارقة لوضع الشخصية مع محيطها مولدة بذلك اجواء عجائبية و(الثانية) حركة تنافر وتعارض بين اسم الشخصية ودورها وصفاتها وتعمل كذلك على اضفاء البعد العجائبي للشخصية.
(بشير) احد اهم شخصيات الرواية والدال اللغوي لهذا الاسم يشير الى الفرح والسرور والحسن والجمال، ويكاد اسم الشخصية ان يتفق ويتطابق مع الصفات الجسمية والحسية المقدمة في المتخيل الروائي ((قطع عليها ذكرياتها دخول ولدها بشير ما اطول ذلك الفتى أي طول له؟ له صوت قاس مثل صوت ابيه ويحمل في وجهه قسمات ابيه ذاتها الوسيمة بالفظاظة والوحشية المتوثبة الى الهجوم دائما))(18).
يمر اسم بشير بتحولات مهمة تتبدى مع الكشف عن نوايا الشخصية، وهذه التحولات تؤشر على مفارقة كبرى في بنية الرواية، فهذه الشخصية التي من المفترض ان يحمل (اسمها على الاقل) الخير والبشارة والامل، كانت الرمز المطلق للشر واللارحمة وموت وجفاف العلاقات الإنسانية والخراب والدمار واللعنة المستمرة مما جعلها (أي الشخصية+ مفارقة الاسم لمرجعياته) عاملا مساعدا في ابراز الاجواء العجائبية في النص الروائي، لذلك كان بشير عبارة عن دال على القسوة والقتل والهلاك المستمر المتنقل من مدينة (م) الى العاصمة، لذلك فإن بشيرا بقي حيا في عالم (الطريق الى عدن) ولم تكن له نهاية تشابه نهاية افراد عائلته الذين انتقلوا الى (عدن) بل بقي ممثلا للخراب المستمر في الارض العراقية ((وغدا بشير بحكم قوته التي لا تجارى وجرأته التي لا تبارى سيد الموقف في مدينة الصعلكة المغيثة والجهل المبهر والقذارة المنفجة حيث تحولت الجرذان إلى عجول والعجول إلى آلهة تعبد))(19).
من النماذج الاخرى التي تؤشر التعارض بين اسم الشخصية ودورها في المتخيل السردي، شخصية (علي)، اذ يشير الدال اللغوي على العلو والتسامي والارتفاع، الا ان دور الشخصية في عالم الرواية كان مثالا على الحقارة والدناءة والوصولية والانتهازية وعلى الرغم من ان الصفات الجسدية اتسقت تماما مع مدلولات الاسم اللغوية الا أن دور الشخصية خلا من هذه الصفات وتفارق وتعارض تماما مع الاسم ولم يكشف داخل الرواية الا عن القسوة والشبق اللامحدود والفحولة والغدر والتعالي والانحطاط الاخلاقي، مما جعل من هذه الشخصية تبدو في موقف التعارض مع شخصية (امينة) ((فكرت امينة بالفترات العصبية التي مرت بها وهي تربي اولادها الاربعة بعد رحيل زوجها علي الى مكان مجهول لم تتمكن من معرفته الا بعد سنين (...) وتزوجني على الرغم من عدم موافقة اهلي، فلم يكن هو يليق بي ولا أسرته تليق باسرتي الا انه النصيب، واغضبت اهلي وعشنا على الكفاف حتى سكنت امي معا (...) وبعد ان استحوذ على نصيبي من الارث رحل فجأة من دون ان يترك أي اثر. وبقيت انا مع الاولاد يكللني الحزن واضحيت وحيدة، افتقدت تطويقه لخصري بذراعه القوية وهو يعصر اكتافي، كنت اغوص فيه تماما واستسلم الى ضرباته القوية والى استحواذه الرقيق عليّ دون ان ابدي اية مقاومة، وكنت استسلم كل ليلة الى امواجه، ولم يدع جسدي ليلة دون ان يكون اسير جسده، لقد كان يملك طاقة عشرين رجلا فحلا مرة واحدة))(20).
ومما يؤكد بروز هذه الظاهرة، أي التناقض التام بين الاسم ودوره في المتخيل السردي الذي يعمل على تعميق الإحساس بعجائبية الشخصية، وجود أكثر من شخصية تدل على ذلك، والمثال الآخر لذلك هو شخصية (صالح الشيخ)، جد أمينة، الشخصية الرمز المختفية في الوحدات السردية الأولى، والتي تظهر في خاتمة الرواية، فهذه الشخصية على الرغم من اختفائها في بداية الرواية إلا إن لها حضورا طاغيا في النص الروائي وأثرا واضحا في شخصيات (الطريق إلى عدن)، اسم الشخصية يدل على الصلاح والوقار (الشيخ/ الصالح) إلا إنها تمثل وهما كبيرا (للقارئ وباقي الشخصيات) ورمزا شديد التكثيف والتمويه على السلطة القمعية بكل تجلياتها (السياسية- الاجتماعية- الثقافية) لذلك جاءت توصيفاته الجسدية والسلوكية مفارقة لدلالات اسمه مشكلة مشاهد عجائبية ((بدأ المشهد بانطلاق خدم صالح الشيخ من بيت إلى آخر وهم يحملون مشاعل متقدة ومواد قابلة للاشتعال سريعة الاحتراق ويضرمون النار في أثاث المنازل والأبنية، واضطرمت النيران المتأججة في الحي الذي أراد صالح الشيخ حرقه، لكي يعيد بناءه وفقا لهندسة جديدة وطريقة جديدة يخلد فيها اسمه، واجتاح الحي ذعر ورعب ومما أدهش أمينة أن الناس يمشون وسط النيران دون أن يحترقوا (...) أعجب المشهد صالح الشيخ ورأى فيه عرضا مسرحيا حيا رائع الجمال والرونق، وطلب إلى مغنيه غناء أغنية حريق طروادة وحريق بغداد على يد المغول، وهو يرنو إلى اللهب العارم الذي يجأر في المدينة وينطلق متقهقا قهقهة قوية وانشد أغنية سمعت في جميع أرجاء عدن: أنا صالح الجبار، اقتل من أشاء واملك ما أريد، اقطع الأعناق واسفك الدماء، لا يجرؤ احد على ان يرفع في وجهي سيفا، والناس جميعا يخضعون لمشيئتي، لأني سيف حاد يقصم الظهور قصما ونار حارقة تحرق الأجساد حرقا، أنا صالح الجبار))(21).
إن الظهور الحقيقي والدور الفعلي لـ (صالح الشيخ/ الجبار) كان على النقيض مما توقعه/ توهمه القارئ الذي يفاجأ بهذا التحول/ الانقلاب لهذه الشخصية التي توهم فيها العدل والإنصاف والمساواة والإصلاح في يوتوبيا عدن إلا انه وجد ومعه وجدت (أمينة وباقي الشخصيات) الجبروت والطغيان والتدمير والظلم والجور، وبذلك يكون صالح الشيخ تكرارا لما موجود في عالم أمينة الأرضي من أمثال (علي وبشير وعبدالسلام).
فضلا عن هذا التناقض بين اسم الشخصية ودورها، هناك التطابق والتناسب بين معاني الاسم ودوره، وهذا عمل كذلك على تفعيل الإحساس بغرائبية المشاهد الروائية، ومن الأمثلة الدالة على ذلك شخصية (محمود) ابن علي وأمينة والشهيد في حرب الخليج الأولى، فعلى الرغم من تطابق الاسم مع مرجعياته ودوره في المتخيل الروائي إذ يدل على (المحمود السيرة لدى الناس وعلى الفضائل الأخلاقية) إلا إن المؤلف لا يقدم ذلك إلا ضمن رؤية فنية/ عجائبية تتحكم في بنيات النص وتعكس قسوة الحرب ودمارها ووحشيتها وكمية الخراب النفسي والمادي الذي تسببه ((لم يقتلني احد، قتلتني الدبابة واقتلعت عيني وشوهت وجهي وأصابت عنقي وحين خرجت منها محترقا ولدت من جديد وعدت أكثر قوة حتى تمكنت من التحليق في السماء ووجدت السماء واسعة والأرض أكثر اتساعا، حتى بدت لي ارض المعركة صغيرة مثل جزيرة في نهر فائض وحين نظرت في أجواء السماء وجدت نفسي محاطا بهالة من الملائكة يغنون لي أغنية الشهادة، لم أكن وحدي، كان معي عدد من الرجال لا فرق بين جندي وضابط وآمر وهكذا ترك المقاتلون ارض المعركة وطاروا إلى عنان السماء الواسعة، والتصق القائد بكرسيه يشاهد المأساة، حتى أبيد العدو وأبيد مقاتلونا))(22).

ثانيا : عجائبية الفضاء الروائي:
مفهوم الفضاء واسع ومتداخل، فهو يتسع ليشمل الزمان والمكان ووجهة النظر، وفي أحيان اخرى يضيق ليشمل المكان بوصفه حيزا جغرافيا طوبوغرافيا أو النص المكتوب بوصفه حيزاً طباعياً، والفضاء ما هو إلا ((الحيز الزمكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعا لعوامل عدة تتصل بالرؤية الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب))(23).
ان الزمان والمكان متلازمان ولا يمكن الفصل بينهما إلا في السياق الدراسي لذلك فإن ((علامات الزمان لا تمنح دلالاتها إلا في المكان، والمكان لا يدرك إلا في سياق الزمان، وبينهما يتنامى العالم المأخوذ من النص الروائي في بعديه المادي والمعنوي، فالفضاء أداء يشتمل على المكان والزمان لا كما هما في الواقع ولكن كما يتحققان داخل النص))(24).

أ. عجائبية المكان وتحولاته:
المكان في النصوص الروائية يتشكل عموما من مجموع العلاقات اللغوية التي تؤسس للفضاء المتخيل وتعمل على بلورته وتحويله من إشارات لغوية ضمن خطاب سردي الى ايقونة بصرية متخيلة معتمدة في بعض تفصيلاتها على المرجعيات الواقعية. والمكان الروائي المتخيل ليس هو المكان الواقعي على الرغم من التمويهات التطابقية التي يحاول الخطاب الايحاء بها، ومع ذلك يحاول الروائي تضمين نصوصه بعض الإشارات الجغرافية او الواقعية ((سواء كانت هذه الاشارات مجرد نقاط استرشاد لاطلاق خيال القارئ ام كانت استكشافات منهجية للامكنة))(25).
ومن المقولات المهمة في مقاربة المكان الروائي، الآراء التي طرحها (لوتمان) وهي تعتمد مبدأ التقابل بين متضادين وتعتمد كذلك على مفهوم (الحد)(26) الذي يفصل بين مكانين متعارضين ومن أهم خصائصه الاثار السلبية التي يتركها على الشخصية عند محاولتها اختراقه.
تتشكل الأمكنة العجائبية في رواية (الطريق الى عدن) على وفق رؤية واضحة لدى مؤلفها تشتغل على ثنائية فكرية – دينية [العلوي (المتخيل اليوتوباوي) والارضي (الواقعي السفلي)].
والمكان الواقعي (الارضي) يتقاطع ويتماهى باشاراته الجغرافية والتاريخية ومرجعياته الواقعية مع مدينتي (الموصل وبغداد)، اما العلوي المتخيل فإنه يستثمر المعطيات الدينية والثقافية المأخوذة عن الآخر في محاولة لرسم عالم الـ(يوتوبيا- المدينة الفاضلة) التي يبحث عنها الإنسان بطرائق مختلفة، ويأتي رسم هذه الاماكن على شكل عجائبي/ واقعي يسخر من الواقع والامال والاحلام والافكار المجردة وتطبيقاتها المنحرفة. فضلا عن هذه الاماكن يبرز بشكل واضح الحد الفاصل بين العالمين المؤطرين للرواية وهو عبارة عن مكان انتقالي (اعراف/ الطريق) بين الارضي والعلوي.

1. المكان الارضي/ السفلي (فوضوية الواقع).
المكان الارضي في رواية (الطريق الى عدن) يحيل بتوصيفاته ومرجعياته التاريخية القديمة والآنية على المدن العراقية (الموصل وبغداد) في لحظات زمنية مفصلية في تاريخ هذا البلد (الحروب+ الحصار)، وهذا المكان يقدم صورة عجائبية سوداوية فوضوية للمشهد العراقي وهي لا تعكس باي حال من الاحوال أي بعد حضاري للمدينة العراقية بقدر ما تعمل على عرض المكان مع تفصيلاته الجزئية وهو يعج بالفوضى والقذارة والعلاقات الإنسانية التي تتحكم بساكنيه ((على طول سوق النبي المكتظ بالبشر والحوانيت والبسطات والسيارات يعرض السوق لمدينته ولأهل القرى المحيطة بعدا وقربا، حفنة حناء تبيعها عجوز ومصاحف يبيعها رجل كث اللحية في جسده الف شهوة، وطفل يبيع اكياسا مصنوعة من كتاب قديم او حديث لصق (بدهن الكاغد) وقروية تبيع بيضا وقروي يبيع بطة او ديكا (...) سوق النبي فضاء التحدي اليومي لنساء ورجال يستيقظون مبكرين بحثا عن الربح والنقود (...) كل شيء في سوق النبي غير معقول كما هو الحال في المدينة، فهو عالم يتهاوى وكل شيء يحدث فيه قابل للتصديق وغير قابل للادراك لأنه عديم الفائدة (...) يبدو سوق النبي اثناء العصر مثل متحف للكوابيس، متحف اليأس والعار الذي انحدر اليه البشر من جراء الجوع والحصار))(27).
يعتمد تقديم المكان على الرؤية (المتوالدة)(28) التي تتميز باستدعاء الكل لمجرد ظهور الجزء، فاستدعاء (سوق النبي) بوصفه جزءا من المدينة، يستدعي الى الذاكرة حضور الكل (مدينة الموصل) ومن ثم (العراق)، ان هذه التقانة في ارتكازها على عالم اللامعقول في توصيف عالم واقعي (معقول) تهدف الى الكشف عن الصورة الكلية للوطن المدمر في ظروف الحروب والحصار والجوع، وهذه الصورة فيها الكثير من الابعاد العجائبية اللامألوفة التشاؤمية التي تؤطر المكان والبشر.
هذا التوصيف ينطبق على مدينة بغداد وان كان بدرجات متفاونة، فهذه المدينة ذات العمق التاريخي الحضاري تتبدى في عالم (الطريق الى عدن) انموذجا للشر والخراب والدمار والعلاقات الانسانية الفاسدة، ويبرز الجزء بوصفه صورة تمثل الكل وتدل على فوضويته وغرابته، ويأتي هذا عبر ربط الانسان بالمكان، فالاخير لا يقدم بأوصافه الجغرافية فحسب انما بعلاقاته مع الانسان ومقدار التأثير الذي يحدثه كل منهما في الآخر ((طيلة فترة التحول التي طرأت على بشير عمد الى تجنب النظر إلى ما حوله، ثم نسي العسكري ولم تعد عيناه تتحولان قافزتين الى الجانب الاخر من الشارع، لم يعد ينطق بكلمة مطمئنة او مخففة مما يخيب الأمال فقد اضحى لا يهمه ما يدور في العالم اطلاقا، ولم يلاحظ ان ملامح الشوارع قد بدأت تتغير وأن السكان يمرون حاملين اولادهم وهم يصرخون ويولولون، ولم يدر بخلده سوى جيوش الخلاص تطير عبر السماوات وتملأ عوالم الابد باناشيد النجاة، وسكطن قلبه بعد تزعزع. وحين انتهى من شارع الموت رأى المدينة يزدحم فيها المرور والكثير من الشبان اعتادوا قلب ياقات قمصانهم الى الأسفل ورجال من جميع الاعمار والمستويات يبصقون بلغما من افواههم كجندي يطلق بندقية))(29).
وفي مقطع آخر يحمل الدلالات ذاتها ((الشوارع المؤدية الى فنادق الدرجة الاولى غاصة بالسيارات المسروقة بحكم القانون او خارج احكامه، وفي داخل هذه الفنادق عجائب الدنيا السبع، موسيقى غربية وموسيقى غجرية، اثواب قروية وثياب بلدية، عاهرات واشباههن، وزجاجات وأوان وكؤوس تفرغ لتمتلئ، وارجل لا تجيد الرقص تتحرك واصوات لا تجيد الغناء واشاعات واخبار ومعلومات))(30).
ومن الأماكن الأخرى التي تكشف عن فوضوية المكان الواقعي ويتبدى فيها العجائبي واللاواقعي المستند على المرجعيات الواقعية، ساحات الحرب والخنادق وجبهات القتال، والمقابر، وتبرز هذه الأمكنة التدمير الجماعي الذي تسببه الحروب للمجتمع، هذا التدمير الذي يقف في موازاة التدمير الفردي الذي مثله (بشير)، ويعمل المكان العسكري المؤطر بفضاءات الموت على اكمال صورة المدينة القاتمة فيعرض للموت والدمار والعشوائية والفوضوية ومدى التشاؤم من المستقبل ((اذا حل الظلام ولم تنته المعركة وعدنا الى ملاجئنا سالمين، نتعثر بالموتى، لأننا لا نستطيع رؤية شيء، أي شيء، سواد قاتم كل شيء اسود حتى جثث القتلى ونحن الاحياء نزحف ونتوقف عن الزحف، حتى دلونا فوق جثة مبقورة البطن حينما ينبثق وهج او تطلق قذيفة، وربما وضعنا وجهنا في امعائه المندلقة خشية ان يرانا قناصة العدو، وأحيانا نظل طول الليل مطروحين الى جانب الموتى حتى يظننا الجنود اننا احد الموتى وهم آخذون يف البحث عنا(...) اخرج الى اطراف المدينة واتمشى بين القبور، أقرأ الشواهد والاسماء، اتشبع برائحة المقبرة والموتى واحس بقلبي يخفق من الحقيقة الثابتة، حقيقة اني سارقد يوما هناك))(31).
إن المكان الواقعي المقدم بصورة عجائبية لا يأتي منفصلا عن باقي مكونات الحكي ولاسيما الانسان، فالمكان الروائي يعمق الاحساس بالفوضوية وتدهور المجتمع وخراب البلاد، ويكشف عن ضعف الانسان وهشاشته امام قسوة المكان وعدائيته.

2. المكان العلوي (عنف المتخيل).
المكان المتخيل في رواية (الطريق الى عدن) ذو صفات علوية/ ثقافية/ دينية يتعالق نصيا مع المكان الديني (الجنة/ النار/ الاعراف) وكذلك مع المكان المتخيل في المدونات السردية العربية القديمة (رسالة الغفران) و(رسالة التوابع والزوابع)، ومع كوميديا دانتي الإلهية. وهذا المكان لا يعبر عن حدود جغرافية (طوبوغرافية) واضحة المعالم، بقدر ما يمثل رؤية فلسفية فنية تعبر عن واقع يمتزج فيه الحلم بالوهم والتصورات الميتافيزيقية وعلى الرغم من ان الراوي (العليم غير المشارك) –ومجموعة الرواة المشاركين- يحاول ان يرسم توصيفا يوتوباويا/ لاواقعي/ خياليا يدل على عالم مفقود (عالم القيم والاخلاق والمساواة والعدل والمحبة بعيدا عن العالم الواقعي حيث التدهور في القيم الاخلاقية والكراهية التي تتحكم بتصرفات الشخصيات). الا ان المفارقة الكبرى وهي مفارقة ساخرة تأتي في خاتمة الرواية عندما يكشف عن التطابق بين الواقع واللاواقع، الحقيقة والحلم، الوهم والامل، اذ يكتشف القارئ ومعه الشخصيات الفاعلة (امينة) ان العالم الآخر المنشود/ الامل (وهو عالم متخيل لا وجود له الا في احلام وهلوسات الشخصيات) ما هو الا انعكاس للعالم الارضي.
ان المخيلة هي العامل الاساس في بلورة المكان العجائبي ذي الصفات اليوتوباوية، ويتجلى هذا المكان في اشكال مختلفة، فهناك اماكن الانتقال (الحدود الفاصلة) ومن اهمها الغابة التي مرت امينة عبرها نحو مدينة (عدن) بعد موتها/ حياتها، ويمتلك هذا المكان الانتقالي جملة من الصفات العجائبية ((هذا مكاني، اليه انتمي وفيه اود ان ابقى، أي نهر صاف واية اشجار جميلة، الا انها عالية بالنسبة لاشجار مدينتي القديمة، ومع ذلك فهي محملة بالثمر، سألت امينة جدتها قبل مجيء امها: اين انا؟! اجابت جدتها في الغابة، قالت امينة: انه مكان غريب لم تجب جدتها بشيء، سألت أمينة: صادفت في سيري شابا اسمه راضي وحينما نعست قليلا اختفى، اجابت الجدة: هكذا الشباب يظهرون بسرعة ويختفون بسرعة. رددت امينة: ورأيت وجه علي مثل سراب هائم بين الاشجار))(32).
من الامكنة الاخرى التي يمتزج فيه المتخيل بالواقع، الا ان سلطة المتخيل هي الواضحة (قرية العسل) وهي مكان اشبه بالمكان الحيادي (الاعراف) قبل الانتقال الى امكنة النعيم (عدن) او امكنة الجحيم، وهي تمثل حدا فاصلا بين امكنة الانتقال وامكنة الاقامة الدائمية لاكثر من شخصية (امينة، علي، راضي، محمود) ((وصلا قرية زهرة العسل، سكنت الريح وراحت تحرك بين اونة واخرى اغصان اشجار العسل فتجعلها تتساقط عسلا كثيفا يطبع المكان بقطرات لامعة سرعان ما تنطفئ وأخذت الطيور المنطوية على نفسها وهي نائمة تحرك اجنحتها قطرات العسل التي تسقطها الاشجار (...) امطرت السماء ثانية عسلا سمعت امينة بقبقة السائل فترة طويلة وبدا زجاج النافذة خابي اللون، وقطرات العسل تنساب على الجانب الآخر من النافذة وكأنها الدموع على شكل خيوط سميكة، نظرت امينة الى القطرات الملتمعة في ضوء البرق وهي تتساقط وامينة تتنهد وقد جافاها النوم، تريد ان تتذكر أي شيء الا انها لا تتذكر شيئا ولا تعرف لماذا هي هنا))(33).
وفي مقطع آخر يصور عجائبية المكان/ الحد الفاصل ((شعرت بالامتنان لصمت رفيقها راضي وهما يسيران بمحاذاة نهر اللبن بعيدا عن قرية العسل، وشغل الكوخ الذي كان ظلا كالحا متجهما وبغيضا عنصرا مضادا لتآلف نهر اللبن الذي يمتد من منبع مجهول الى مصب غير معلوم))(34).
المكان البارز الذي شكل صدمة للقارئ وللشخصيات الفاعلة هو مدينة (عدن) حيث البحث عن الامل، والسلام، والطمأنينة، الا ان المفارقة تتولد عندما يتم التطابق الكامل بين المكانين العلوي والارضي، فتتجلى مدينة عدن مكانا معاديا وبؤرة مكانية للقهر والقمع والظلم وابعد عن السعادة والسلام ((حين دخلت امينة مدينة عدن بدأ القوس يرقص فوق الاوتار، والاجراس الصغيرة ترن، وحبات المطر تتجمع فوق وريقات الليمون (...) انه يوم بهيج لا يتحقق الا في مدينة عدن وعند البشر في الاحلام، وما لبث صوت القيثارة ان تغير واصبح ضاريا غاضبا ورنت اجراس القوس مثل الاجراس التي تعلق بعنق صقر مدرب وهو ينطلق في الهواء بحثا عن فريسة، وتنبعث من القيثارة اصوات رجال تذكر الفرسان بالحروب وأنات رجال وهم يحتضرون، وعويل نساء وهن يبكين موتاهن))(35).
ان الكلام عن مدينة عدن ما هو الا كلام شديد التركيز والتكثيف والتسخيف عن العالم الواقعي، وبذلك تتجلى مدينة عدن بوصفها فكرة رمزية لانعدام الامل في الوصول الى السلام المطلق، وتتماهى عدن/ الحلم مع الارض/ الواقع ((اننا نجعل الموجودين في عدن طبقتين او ثلاث طبقات عليا متساوية في الحقوق والواجبات، ورعايا لا يتمتعون بالحقوق المعترف بها للطبقة العليا وطبقة ثالثة من الاتباع))(36).
ان مدينة عدن لا تعدو الا ان تكون مكانا مزيفا وهميا لا وجود له الا في مخيلة الناس الضعفاء، وتتظافر السلطة بتجلياتها كافة مع هذه الاوهام في صنع هذا المكان ((ان حاكم مدينة عدن حقق كل ما هو سام وبطولي في ماضيه وحاضره ومستقبله واستخدم كل ما أذل او جرح المشاعر الحقيقية للناس سلاحا ضد المفسدين الذين يحاولون نشر الكتب والصحف التي تسعى وراء هدف واحد هو تزييف الحقائق))(37).
ان القمع والتسلط وحب الذات وتدمير الآخرين هي اهم سمات المكان الأرضي/ الواقعي، الا ان هذه الصفات تنعكس في العالم (المتخيل) وتشكل عنفا تدميريا ضد الساكنين في هذا المكان، ويتحول المكان الى مكان سكوني جامد بدلا من كونه مكانا حيويا، فاغلب ((الدول اليوتوبية دول سكونية لا تسمح لمواطنيها بأن يناضلوا او حتى ان يحلموا بيوتوبيا افضل))(38) فهذا ما عمدت اليه سلطة (صالح الشيخ) عندما غلفت الاشياء ببريق كاذب يخفي تسلطية مدينة عدن ((بدأ الاحتفال وكانت النمرة الاولى في الاحتفال نمرة التعذيب فقد نصبت آلة حديدية هائلة يجري التعذيب عليها بأن تربط اليها يد الشخص المنوي تعذيبه، وتشد رجلاه بوساطة آلة رهيبة اخرى حتى تنخلع اطرافه ويمط جسمه مطا اليما وتسحق عظامه، ارعب المشهد امينة وخانتها قواها واستبد بها ذعر شديد لهول ما رأت وحين تساءلت عما فعله هذا المعذب المسكين اجابها والدها هامسا: هذا جزاء كل من يخرج على قوانين مدينة عدن. وحينما سألته امينة عن طبيعة هذا الخروج اجابها والدها: لقد احب، ثم لاذ بالصمت، وادركت امينة من طلب اهل مدينة عدن المشهد مرة اخرى، ان المرء في عدن لا يموت مها اشتد به الالم، ويفقد وعيه، ثم يعاد تعذيبه مرة اخرى، وهكذا دواليك حتى يسأم الناس ويطالبون بمشهد آخر))(39).
إن مدينة عدن بوصفها مكانا (ملجأ) او فكرة تصبو اليها عقول الناس لم تشكل في عنفها وتدميرها الا خيبة امل كبيرة للشخصيات اذ تساوى فيها المجرم (عبدالسلام) قاتل امه و (علي) صاحب التاريخ الاجرامي الطويل بـ (راضٍ) الشهيد في حرب عام 1991 و (أمينة) ضحية جحود ابنائها ومحمود الشهيد في حرب الخليج الاولى. ان هذه المساواة قائمة على فكرة انتفاء العدل وتكرار الاحداث الموجودة في الواقع، لذلك شكل عنوان الرواية/ اسم المكان (عدن +الطريق) مفارقة ساخرة من حيث عدم مطابقته لآمال الشخصيات وتوقعات القراء، اذ ان (عدن) بمرجعياتها الدينية والتاريخية الاسطورية تشير الى الجنة او ارض العدالة والمساواة (المدينة الفاضلة)، والطريق رمز كبير لعذابات ونضال الشعوب في سبيل تحقق الاهداف النبيلة والسامية، الا ان المدينة ومن قبلها الطريق شكلا صدمة في هذا التحول المفاجئ وقلب الادوار بين الخير والشر.

ب. عجائبية الزمان (سكونية الحياة/ حركية الموت).
الرواية مدونة سردية مبنية على علاقات زمانية متشابكة ومعقدة، وفي الاصل فإن الرواية ما هي الا ((تركيبة معقدة من قيم الزمن))(40)، وقد بنيت الرواية التقليدية على مبدأ الالتزام بنظام التسلسل والتعاقب المصحوب بتبرير عقلي ومنطقي، اما الرواية الحداثية فقد اهملت هذا المبدأ وتجاهلته واقامت مشروعها السردي من اعادة ترتيب الاحداث على وفق رؤية فنية/ جمالية تتوخى الاثارة وتكسير خطية الاحداث والتسلسل المنطقي لها، ومشكلة الزمن في النص الروائي تنبثق من افتراض مسبق –رأي جينيت- يراهن على وجود الزمن في درجة الصفر، ومن ثم تأسيس تطابق او تنافر بين النظام المفترض للاحداث ونظام ورودها في الخطاب مما يشكل مفارقة زمنية(41)، لهذا فإن علاقات (الاستباق والاسترجاع) وعلاقات المدة والتواتر تشكل الاساس المنهجي في ضبط ماهية الزمن الروائي.
تقوم رواية (الطريق الى عدن) فنيا على فكرة اهمال التسلسل الزمني وتأسيس خطابها المتخيل على التنقلات السردية السريعة والابتعاد عن محاكاة الزمن الطبيعي ومن ثم انعاش البنية الزمنية المتخيلة على حساب فوضوية تامة في البنية السردية. اما فكريا فإن حركية الزمن تتأسس على وفق ثنائية الحركة والسكون (الموت- الحياة) بين عالمين متصارعين متناقضين يكمل احدهما الآخر، العالم الارضي الواقعي بتناقضاته المتعددة والعالم العلوي بديمومته اللامنتتهية.
يعد الاستباق التنبؤي احد اهم اشكال التقانات الحديثة في بناء الرواية وفي اعادة تشكيل بنيتها السردية، وبذلك تكمن اهمية رواية (الطريق الى عدن) التي يمكن عدها رواية استباقية تنبؤية بالكامل، فهي تشير صراحة وضمنا الى التحولات الضخمة والهائلة والمصيرية التي مر بها المجتمع العراقي في الربع الأخير من القرن العشرين.
ويمكن ان نلاحظ اكثر من انموذج دال على البنية الاستباقية التنبؤية (الاعلانية) وهذه البنية مؤطرة بافعال عجائبية للشخصيات الرئيسة ولا سيما (امينة). اذ يبدو المشهد السردي المقتطع وكأنه مدخل تشاؤمي للرواية، يؤسس حضوره وفاعليته من خلال ارتباطه مع الاحداث اللاحقة، ويعمل بوصفه تمهيدا لها ومؤشرا حقيقيا على حدوثها ((تحرك فجأة طائر اسود بهتت ملامحه في الظلام كما في اللوحات الصينية وهو في طريقه الى مأواه، تحرك فجأة في مأوى مخفي بين الاشجار، ادار وجهه نحوهما ثم اسرع بعيدا دون صوت وعلى ارتفاع منخفض. تمكنت امينة ان ترى عينيه ومنقاره البرتقالي في آخر خيط من ضوء النهار وحين اقترب منهما زعق زعيقا وحشيا ارتعدت له فرائص امينة وعدته شؤما وقرأت سورتي (الناس والفلق) وتلتهما بآية الكرسي لتبعد الشر عن اولادها))(42).
إن الدال الزمني المبني على تكسير نمطية السرد يتأسس على افعال عجائبية يختلط فيها الموروث الشعبي والاسطوري والديني (الغراب/ التشاؤم/ الدمار/ الهلاك) وهو يحدد المدخل الأساس للرواية عندما يحفر في تاريخ العلاقات الاسرية والاجتماعية المتهالكة، وبذلك يمكن عد الغراب معادلا موضوعيا لـ (شخصية بشير) الرمز المطلق للشر والدمار.
تشكل الاحلام بنيات زمنية استباقية في جسد الرواية العام، وهذه الاحلام لها اهمية واضحة في تأطير الاجواء العجائبية وتحديد فعاليتها، ومن ذلك حلم بشير الاستباقي الذي يتنبأ بمستقبل هذه الشخصية العدوانية ذات النوايا التدميرية ((ان ما يزعجني حقا حلم يراودني دائما انا وانت في غابة مظلمة تبدو فيها الاشجار اشباحا وتتحول الغابة الى مفازة لا نهاية لها وتغادرها الاشجار خائفة وهي تعدو بجنون كأننا في سباق الضاحية واركض انا وراءها ولا استطيع الوصول الى نهايتها.
سأله هاني ضاحكا: وانا ماذا افعل؟
اجاب بشير: تبقى مكانك، وانا اعدو وحدي لألحق بالاشجار او لأصل الى نهاية الغابة التي لا نهاية لها. ثم اجد نفسي وحيدا وانا قرف من عدوي اللامجدي وراء الاشجار المذكورة فاستيقظ فزعا وانا اشعر بدناءة العالم مع ادراكي بأنني جزء منه وتنابني في مثل هذه اللحظات رغبات تدميرية))(43).
ان الاهتمام بالاشارات المستقبلية يكشف عن التناقضات المتعددة التي يزخر بها النص الروائي ولا سيما اتناقضات الاجتماعية، فالكشف عن عالم المتناقضات ((يفتح الزمان بالضرورة على عالم المستقبل))(44).
تنهض في خط موازٍ لهذه البنيات/ الاشارات الاستباقية، بنيات اخرى ذات حضور نصي كثيف، وهي الاستذكارات بنمطيها الموضوعي والذاتي، التي تأتي في مقام الشرح والتفسير للكثير من تصرفات الشخصيات الغامضة التي تبدو بلا جذور، وما يميز هذه الاستذكارات ورودها في نص الرواية بشكل مباغت يزحزح من ثبات ونمطية السرد، وهي تكون غالبا ذات امتداد زمني بعيد جدا يتجاوز النصف قرن وتتداخل مع الخلاصات السردية التي تعجل حركة الحكي ((ولدت اثناء حرب فلسطين عام 1948 ونشأت مدللا وسعيدا ولاسيما من قبل امي امينة صالح الشيخ، فقد كنت ولدها البكر وترعرعت في فترة قلقة سادت البلاد الا ان اسرتنا الصغيرة لم تكن تهتم بالسياسة قدر اهتمامها بمشاكلها الخاصة فقد كان والدي موظفا بسيطا وكانت امي مدرسة ثم مديرة لأكبر ثانوية للبنات في مدينة (م) فاستاذة جامعية))(45).
ان الزمن الواقعي الطبيعي الذي يعرضه الخطاب الروائي ضمن رؤية فنية/ جمالية تتوخى الابتعاد عن التسلسل الخطي، هذا الزمن المشبع بالفوضوية واللاعقلانية والسكونية التامة والمطابقة بين احداثه على الرغم من اختلافها، يتقاطع مع الزمن (الآخروي/ العلوي/ المتخيل/ اليوتوباوي) الممتد بديمومته والمنفتح باستمراريته، والذي يميز هذا الزمن خلوه من الاشارات الدالة على تحديد ماهيته فتنعدم الابعاد الثلاثة (الماضي/ الحاضر/ المستقبل) ولا ينبثق الا الزمان الآني، ان التعامل مع الزمن الواقعي (المعيش) في عالم (الطريق إلى عدن) من قبل الشخصيات الفاعلة يمر باتجاهين، الاول يشكل حنينا طاغيا الى الماضي (الماضي السعيد)، والثاني التشوق الدائم الى الابدية(46).
لذلك فإن عالم الذكريات لا يشكل سلطة واضحة المعالم على الشخصيات في مدينة (عدن)، فالذكريات تنتفي لدى امينة وهي في طريقها الى عدن بعد موتها/ قتلها، وبانتفاء الماضي، فإن تاريخ هذا الماضي، التاريخ المرتبط بالانتهاكات الحادة لها ولأنسانيتها ينتهي، ويتساوى المجرم والبريء في لا زمانية الطريق الى عدن ((اجابت امينة: انني اشعر بالاختلاف فعلا: لا اذكر شيئا عن الامس وانا خالية البال عن الغد. كل ما اعرفه انني ذاهبة الى ابي وجدي صالح الشيخ، وقد بدت امي سعيدة على خلاف عادتها))(47).
ان العالم العلوي/ المتخيل بامتداده ولا نهائيته هو من يعيد تشكيل الحياة المنتهية في المجتمع الارضي، وعلى الرغم من تطابق الحياتين في خاتمة الرواية الا ان ذلك لا يمنع من تأشير فروقات واضحة ومهمة دلت على الفوضى والدمار ((بدا لها كأن الاحداث الماضية على الارض تمثل عائقا زائفا بينهما، كما هي الحال في اقناع فتى لفتاة انه يحبها حقا (...) تأملت امينة كم هي محدودة احلامها وان افكارها لم تعد قادرة ان تتجول بحرية كما كانت وهي حية على الارض. ان الذكريات تثير الالم وتؤجج الاحقاد، وفيها تعذيب للذات واحساس بالذنب في الوقت الذي لم ترتكب ذنبا وانما اساء اليها الآخرون لأنها امرأة طيبة))(48).
تشكل الذكريات احد اهم العلامات الدالة على الثيمة الكبرى في النص الروائي وهي خيبات الامل في استقرار المجتمع وصلاحه وحملت اشارات تاريخية دورية على استمرارية الخراب في عالم (عدن) الجنة الزائفة، ان نص الرواية عرض لبنيتين زمنيتين متعارضتين الاولى ركزت على جفاف العلاقات الانسانية وسكونيتها وموتها في الواقع الارضي، والثانية عرضت حركية الموت تلك الحقيقة الحاضرة في الرواية (حرب الخليج الاولى/ حرب الخليج الثانية/ الحصار)، وبذلك يبرز التناقض الحاد بين جمود الحياة وسكونيتها وحركية وحيوية الزمن العلوي المتقاطع مع ثيمة الموت.

***

ان مقاربة العجائبي في رواية (الطريق الى عدن) افرزت عددا من النتائج المتصلة بموضوع الدراسة من اهمها:
ان العجائبي تحول في رواية الطريق الى عدن الى بنية كلية عملت على احتضان باقي مكونات الحكي وتوجيهها، وهو أي –العجائبي- لم يقتصر وجوده على التوظيف النسبي بل تعداه الى استخدامه كتقانة اساسية وفاعلية في البناء الروائي العام.
ومن الملاحظ ان عالم الشخصيات كان عاجّا بالعجائبية التي اتسمت بها ابعاد هذه الشخصيات بل وحتى نظام التسمية الذي اقترب كثيرا من العوالم العجائبية عبر اسلوبين اساسيين اظهرا البعد العجائبي وهما التطابق والاختلاف.
اما الفضاء الروائي فإن الكاتب عمد الى المكان العجائبي لابراز صفات وتناقضات المكان الواقعي فكان المتخيل الروائي المتأسس على تقانات عجائبية احد ابرز الملامح المعبرة عن المكان ببعديه الواقعي والمتخيل.
اما الزمان فقد عمد الكاتب الى رؤية فلسفية عكست بشكل لافت الاجواء الغرائبية في عالم الرواية من خلال ثنائية متضادة عبرت عن تناقضات المجتمع العراقي وهي سكونية الحياة وحركية الموت.

مكتبة البحث وهوامشه
1. هوية العلامات (في العتبات وبناء التأويل)، شعيب حليفي، دار الثقافة، الدارالبيضاء، ط1، 2005: 189.
2. ادب الفنتازيا (مدخل الى الواقع)، ت. ي. ابتر، ت: صبار السعدون، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1989: 10.
3. نقلا عن: التشخيص في الرواية العربية، محمد الباردي، حوليات الجامعة التونسية، تونس، ع38، لسنة 1995: 273.
4. هوية العلامات: 190.
5. م. ن: 192.
6. العجائبية في الرواية العربية (من عام 1970 الى نهاية عام 2000)، فاطمة بدر حسين، اطروحة دكتوراه، جامعة بغداد، كلية التربية للبنات، اشراف: د. شجاع العاني، 2003: 13.
7. ينظر: حركة الشخوص في شرق المتوسط، ابراهيم جنداري، الموقف الثقافي، بغداد، ع27، لسنة 2000: 85.
8. الطريق الى عدن، عمر محمد الطالب، دار الشروق، بيروت، ط1، 1994: 20.
9. م. ن: 37
10. م. ن: 42.
11. م. ن: 93- 94.
12. السيمياء والتأويل، روبرت شولز، ت: سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1994: 132.
13. الطريق الى عدن: 43- 44.
14. م. ن: 46
15. م. ن: 3- 4.
16. الميتالغوي والتأويلية الانطولوجية، ***** الكيلاني، الفكر العربي المعاصر، بيروت، ع 68- 69، لسنة 1991: 100.
17. سيميولوجية الشخصيات الروائية، فيليب هامون، ت: سعيد بنكراد، تقديم: عبدالفتاح كيليطو، عن الانترنت، موقع سعيد بنكراد، saidbengrad.free.fr.
18. الطريق الى عدن: 5
19. م. ن: 86
20. م. ن: 5
21. م. ن: 157.
22. م. ن: 33.
23. الفضاء الروائي في الغربة (الاطار والدلالة)، منيب البوريمي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988: 21.
24. الفضاء الروائي عند جبرا ابراهيم جبرا، ابراهيم جنداري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2001: 25.
25. عالم الرواية، رولان بورنوف- ريال اوئيليه، ت: نهاد التكرلي، مراجعة: فؤاد التكرلي، محسن الموسوي، دار الشؤون الثقافية العامة، سلسلة المئة كتاب الثانية، ط1، 1991: 92.
26. مشكلة المكان الفني، يوري لوتمان، ضمن كتاب: جماليات المكان، مجموعة مؤلفين، عيون للمقالات، الدار البيضاء، ط2، 1988: 81.
27. الطريق الى عدن: 15 -16.
28. المكان في النص المسرحي، منصور نعمان الدليمي، دار الكندي للنشر والتوزيع، اربد، ط1، 1999: 89.
29. الطريق الى عدن: 141.
30. م. ن: 96.
31. م. ن: 57.
32. م. ن: 3.
33. م. ن: 11.
34. م. ن: 50.
35. م. ن: 149.
36. م. ن: 153.
37. م. ن.
38. يوتوبيا الخيال العلمي في الرواية العربية المعاصرة، يوسف الشاروني، عالم الفكر، الكويت، مج29، ع1، لسنة 2000: 187.
39. الطريق الى عدن: 156- 157.
40. الزمن والرواية، أ. أ. مندلاو، ت: بكر عباس، مراجعة: احسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1، 1997: 17.
41. قاموس السرديات، جيرالد برنس، ت: السيد امام، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2003: 15.
42. الطريق الى عدن: 4.
43. م. ن.
44. اشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل باختين، ت: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990: 71.
45. الطريق الى عدن: 97.
46. ينظر: الزمان، جان بوسيل، ت: محمد نديم خشفة، مركز الانماء الحضاري، حلب، ط1، 2005: 113.
47. الطريق الى عدن: 9.