الصفحة الرئيسة لموقع الدكتور عمر الطالب

 

كاتبـات القصـة في الموصـل

بقلم الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب

 

شارك الراحل أ.د. عمر الطالب ببحث كاتبات القصة في الموصل في الندوة العلمية السادسة والعشرين التي عقدها مركز دراسات الموصل والموسومة (المرأة الموصلية .. ابداع وتجدد) ثم نشر في مجلة دراسات موصلية العدد 17 آب 2007 وهي مجلة علمية محكمة تصدر عن مركز دراسات الموصل وفي ما يلي نص البحث:

 

ملخص البحث..                                     

كتب سليمان فيضي الموصلي أول رواية عراقية (الرواية الايقاظية) عام 1919 ولم تكن كتابة القصة مستحبة طيلة تلك الفترة وهي بين رافض لها ومحبذ. لذا ابتعدت المرأة في الموصل عن كتابتها وقدمت قصص كتبتها فتيات على استحياء ونشرت في جريدة (فتى العراق) في أوائل الستينات، حتى أصدرت سالمة صالح ثلاث مجموعات قصصية في الأعوام 1961، 1963، 1975 عندما أصدرت أفضل قصصها في مجموعة (تحولات). وأصدرت صفية الدبوني مجموعتها (مسألة شرف) في مصر، وسهيلة الحسيني أصدرت مجموعتها (الدفن بلا ثمن) 1968 ورواية (أنتم يا من هناك) عام 1972 ومنال الشيخ (إنصراف التوابيت) 1995. ولم تتبلور القصة القصيرة لكاتبات القصة في الموصل إلا في مجموعة (رمليات مدورة) 1995 لوجدان الخشاب وإنحسرن عن الكتابة بعد الاحتلال عام 2003. 

 

المقدمة:

نشرت المرأة القصة في الموصل بعد ثورة الرابع عشر من تموز على نحو واضح وان نشرت قصصاً قليلةً في الصحف الموصلية قبل هذا التأريخ على نطاق ضيق. نشر بعضها باسم مستعار خشية التعرف على كاتبتها، لأن المجتمع الموصلي لم يكن يحتمل أن تمارس المرأة كتابة القصة لاسيما وأن القصة لم تصبح بعد فناً مقبولاً في العراق الا قبيل الحرب العالمية الثانية وبأقلام الرجال فقط ولا سيما كتابات ذنون أيوب التي أولاها مثقفو العراق اهتماماً خاصاً لجرأتها وتعريتها للزيف السياسي والاجتماعي الذي كانت السلطة الحاكمة آنذاك تتعامل من خلاله. على الرغم من أن الفن القصصي ظهر لأول مرة في الموصل من خلال (الرواية الايقاظية) 1919 لسليمان فيضي الموصلي وانتشرت في كتابات محمود أحمد السيد وجعفر الخليلي وأنور شاؤول وعبد المجيد لطفي(1).

لقد أثرت ثورة العشرين في نفسية العراقيين وشعورهم وأثرت في الحياة الفكرية والعلمية أعمق تأثير فقد واجه العراقيون واقعهم مجابهة ايجابية ورغم أن الثورة كانت تبغي التخلص من الاستعمار الانكليزي فانها أثرت في القيم الاجتماعية والمثل الأخلاقية التي كانت تسود الحياة قبل الثورة وقوّت في العراقيين روح الانتماء التي يحس بها المواطن ازاء وطنه. فأصبح بحكم اشتراكه في الثورة واقعياً في النظر الى الأمور صادقاً في التعبير عن أزماته ومشكلاته والأحداث التي يمر بها الواقع الذي يعيشه وانعكس هذا على فن كتابة الملاحظة حتى يستوعب هذا الواقع بتفاصيله وجزئياته وانعكس هذا على فن كتابة القصة فأصبح القاص العراقي يهتم اهتماماً كبيراً بالجزئيات لأنه يرى أن بواسطتها يتم النقل الصادق عن الواقع ويكون القاص بذلك قد أعطى القارئ كل الحقيقة وقد كان دور الطبقة الوسطى كبيراً في نشوء القصة العراقية وتطورها فهي تمثل الطبقة القارئة ولما كانت القصة موضوعية أكثر منها ذاتية ولما كانت المرحلة الأولى في التكوين الثقافي والشعوري للفرد أو الفنان فان الشعر بصوره وأخيلته ومعانيه يكون أقرب وسيلة تعبيرية لنقل الاحساسات والمشاعر والانفعالات التي يمر بها الفنان في مرحلته العاطفية في حين تأتي القصة في المرحلة التالية من مراحل التكوين الفني للكاتب وللأمة على حد سواء وهذه المرحلة تتميز بغلبة الفكر والتعقل وضبط الشعور والتحكم في الوجدان وامعان النظر في الكون وتحليل ظواهره والتعمق في تفسير سلوك الانسان وتوجيه هذا السلوك توجيهاً منضبطاً وتكون القصة الفن المعبر عن المجتمع بوضوح مما يجعلها أقدر الفنون الأدبية على استيعاب العوامل الحضارية والثقافية التي تطرأ على حياة الأمة وقد تجلى الطابع المحلي العراقي في مختلف مناحي الحياة واستجابت القصة العراقية لذلك الطابع فتناولت بالوصف والتصوير والتحليل الشخصية العراقية واختارت الأسماء العراقية الشائعة والأماكن العراقية المتعارفة وما يدور في الحياة العراقية من عادات وتقاليد ومشاكل وأوضاع مختلفة، ولم تخلُ القصة العراقية من السطحية والاغراق في العاطفية والجموح في الخيال ولكن كل ذلك كان يتأطر بأطر اجتماعية واقعية يحياها أفراد الشعب وتكون انفعالات خاصة بالبيئة العراقية بعد ثورة العشرين.

وقد أثرت الأفكار الاصلاحية التي انتشرت في نطاق الثقافة العربية في بدايات هذا القرن ولاسيما فكرة تحرير المرأة على الأدب العربي عامةً ولاسيما الفن القصصي.

يرى قاسم أمين وجميع الاصلاحيين العرب أن المرأة الجديدة ليست الا ثمرة من ثمرات التمدن الحديث الذي ظهر في أثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل الانساني من الظنون والخرافات ولاقت فكرة سفور المرأة، ودخولها المجتمع مع الرجل جنباً الى جنب صدىً طيباً في العراق فمن الناحية الاجتماعية ظهرت المرأة من خدرها. وأمت المدرسة لتتعلم وتتثقف كما دخلت الجامعة جنباً الى جنب مع الرجل وخرجت للعمل معه ولا سيما في مجال التعليم ونشطت الأقلام في الكتابة عن المرأة وزخرت القصة العراقية بموضوعات الحب بل استغرقت أكثر قصص الرواد من أمثال محمود أحمد السيد وعبد المجيد لطفي وذنون أيوب ولطفي بكر صدقي وسليم بطي وغيرهم.

وتطرق القاص العراقي الى مشكلات المرأة في المجتمع العراقي ونقد العيوب التي سادت في البيئات المختلفة في تعاملها مع المرأة ونظرتها اليها. وبالرغم من النكبات السياسية والاقتصادية والطبيعية التي حلّت بالعراق وقوّت العناصر الرجعية ووضعت في يدها أقوى الحجج ضد هذا التطور الا أن القافلة كانت تسير(2).

شاركت المرأة في الموصل في كتابة القصة فهي أقدر على عرض مشكلاتها الحقيقية، وأصدرت سالمة صالح ثلاث مجموعات قصصية (لأنك انسان) 1961 و (في ركب الحياة) 1963 و (التحولات) 1975 وتناولت موضوعات متنوعة في مجموعتها عرضتها في اطار عاطفي مباشر. رجل يتزوج امرأتين الأولى تعيش لفنها فهي رسامة تحب فنها والثانية تضحي بنفسها من أجل حياة طفلها (زوجتاه) وفتاة عانس مشوهة محرومة من الحنان تغدق حنانها على الأطفال الذين تختطفهم ليملأ وحدتها (جرح لن يلتئم) ورجل يحس بتأنيب الضمير لأنه تستر على القاتل الحقيقي (لأنك انسان) ويعد عدته للسفر الى بلد آخر ليضيع فيه كما كان ضائعاً في بلده، بهذه التقريرية تنهي سالمة صالح قصتها.

شاب يحاول أن يكون مفيداً على غير ما يرى عليه شباب بلده غير أنه يدرك بعد مضي الوقت بأنه واحد منهم (بقايا)، وأب يعود بعد غياب طويل الى زوجته وولده في (وأخيراً عاد) وتنهي القصة بخلق دهشة في لحظة التنوير ((تعالي ياأمي رجل بالباب، دهشت المرأة ولكنها عندما رأت الرجل ارتمت بين ذراعيه)) (ص105)، وتلجأ في قصص مجموعتها هذه (لأنك انسان) الى تقريرية غير مستحبة في نهاية قصصها فتنهي القصة الأولى بقولها: ((لقد عاشت الأولى لفنها وعاشت الثانية لأطفالها كلاهما ضحت وكانت التضحية جسيمة والثمن باهضاً )) (ص15)، وتنهي القصة الثانية بتقريرية غير مستحبة في الفن القصصي، تقطع تأمل المتلقي وايحاءاته الخاصة: ((ان الجرح الدامي الذي ورثته عن الماضي لن يلتئم فقد كانت بالأمس عانساً واليوم ثكلى)) (ص23).

واذا اهتمت سالمة صالح بعرض المشكلات الاجتماعية بتناول عاطفي وبناء تقليدي فانها لم تغير في مجموعتها الثانية (في ركب الحياة) شيئاً غير الموضوعات أما فنها القصصي فقد بقي كما هو، حيث لجأت الى التحليل النفسي في تجسيد شخصيات قصصها الأربع المتميزة عن بقية قصص المجموعة.

حيث يعاني بطل قصة (صدى) من عقدة الاضطهاد، أمه تهدده حتى ينام وزوجة أبيه تضربه وحبيبته (سهاد) غاضبةً منه والسل يأكل رئتيه، إنه يحيا في عالم خال من الشعور، ذكرياته دخان متبدد، الموت يخيفه هو (الذي يريد أن تأتي النهاية لتريحه من عذابه، يحارب الليالي بغير سلاح ويسمع أصواتاً مخيفةً لا تعليل لها حرارة الحمّى تسري في جسده يوشك أن يتوقف ثم لاشيئ الدائرة المفرغة ذاتها).

وتعاني الموظفة محدودة التعليم من عقدة حب الظهور في قصة (ضياع) انها لا تهتم الا بأناقتها، والحديث عن نفسها وأسرتها الا أنها تحس بوجودها ومسؤوليتها عندما تتلقى أول صدمة فترفض أن تنقل من عملها دون سبب وتأبى سالمة صالح أن تترك القصة مفتوحة فنوشحها بتقريرية اعتادت عليها في نهايات قصصها أساءت للقصة كثيراً: ((هنا فقط يتزايل شعور الفرد بالضياع لتحل محله الثقة بالنفس وتقدير الذات)).

يعاني (حميد) عقدة الاهمال من زوجته المنصرفة عنه الى شؤونها الخاصة، مما يؤدي الى الاهتمام بكل ما يحيط به فيبدو فضولياً في نظر الآخرين، وعندما يخلو الى نفسه في الدار يتمنى لو كان قطعة أثاث ليحظى باهتمام زوجته في قصة (على الهامش) وكان من الممكن أن تصبح قصة (عودة) واحدة من القصص الناجحة فيها حساسية مفرطة بالاحساس بالوحدة والسعي في البحث عن الذي لا يأتي من خلال المرأة العجوز صاحبة الدار والمستأجر المهمل الباحث عن الحرية من خلال طيوره التي يحبها، الا أن بناء القصة التقليدي لم ينسجم ومضمونها الجديد فأسقطت سالمة صالح قصتها في التقريرية وحرمتها ميزة التفرد.

تناولت سالمة صالح موضوعات اجتماعية في مجموعتها آنفتي الذكر ووقفت موقفاً صارماً من تقاليد الغرب الوافدة كالحمّى مثل الاهتمام بالمظهر والمودات الجديدة، وقد شاركت في نظرتها هذه عدداً من كاتبات القصة العراقية(3). اذ تبدو (حمدية) في قصة (ضياع) مهتمة بأناقتها ورحلاتها أكثر من اهتمامها بعملها، فقد صورت سالمة صالح فتاة مدللة لا تهتم بغير مظاهر الحياة فاذا صدمت تراجعت وأدركت أنها تسير في طريق خاطئ.

وجسدت الكاتبة أيضاً تضحية المرأة في سبيل إسعاد من حولها إسوةً بكاتبات القصة في العراق، اذ تعيش الأم ساعات عصيبة وهي في انتظار ابنها الذاهب الى الحرب في قصة (والتقينا) وتحترف الأم البغاء لاعالة طفلها في قصة (عصفت برأسي) وتتسول الأم لتمكن ولدها من تحصيل علمه في الخارج في قصة (فريسة القدر) وتسعى المرأة الوحيدة للبحث عن ولدها المتبنى في قصة (عودة).

ولا تخلو قصص سالمة صالح من نماذج للمرأة الشرسة القاسية التي تفرضها طبيعة المجتمع الموصلي وخاصة قسوة زوجة الأب وما تسببه لأولاد زوجها من شقاء وتعاسة كما في قصة (صدى).

ويكاد دور المرأة يضمحل في مجموعة (تحولات) وتعد المجموعة قفزة نوعية من حيث الشكل والمضمون بالنسبة لمجموعتيها السابقتين، فقد اختارت لقصصها مضامين جديدة عميقة اختارت لها حبكات جديدة وبناءً جديداً يتساوى والمضامين الجديدة كما صفت عبارتها وأشرقت وازداد السرد في اسلوبها تلاحماً وقوة، فقد دارت قصص المجموعة الثلاث عشرة في موضوع التحولات واتخذت لها أشكالاً جديدةً، حيث لجأت الى القصة ذات المقاطع والتي يحكمها الزمن الخارجي في قصة (تقرير من قرية جبل النزهة) الناجحة جداً والدائرة حول الهروب من القرية بسبب خطيئة مرتبكة، وهي قصة ذات بعد سياسي عميق. وفي قصة (مصرف الزمن) الدائرة حول فكرة جديدة تجريدية هي ادخار الزمن الضائع للافادة منه بدلاً من تبدده، ولجأت الى القصص القصيرة جداً في قصة (خمس صحارى) تلتقي القصص الخمس القصيرة جداً في وحدة انطباع واحدة، ذات بعد سياسي أيضاً. ففي القصة الأولى (البيت الطباشيرة) يريد الطفل تبديل أبويه الضعيفين المأسورين في اطار العجز والبكاء، وفي (الجثة) تتحرك الجثة مخيفةً الفارس البرونزي مسقطةً السيف من يده.

في (الباب) خلاف بين زوجين ينتهي الى وفاق مشوب بحذر، وفي (النافذة) سأم ووحدة وشوق للحبيب البعيد الا أن النافذة تبقى موصدة، وفي (السور) تململ ورفض للعجز ورؤية البراري المنبسطة خلف السور.

وقد توزعت القصص الأخرى للمجموعة بين أشكال سوريالية وتجريدية وتعبيرية وحملت في أعماقها بعداً سياسياً واعياً، في (الأسرى) مدينة محاصرة لأنها مصابة بالرمد، لا يرى أفرادها فقد دارت حدقاتهم الى الخلف في محاجر العيون وهاجمهم النمل وتسلل في مساماتهم ينهش لحومهم عبر جلودهم في قصة (اسراء أرضي) ويقتل الخليفة شاعراً، يطول شعره ويصبح جذوراً لأشجار تخيف الخليفة. القاتل في قصة (الشجرة) ويتحول المتهم السياسي الى شرنقة شوك أثناء التعذيب تخيف المعذبين في (التحول) وتتوزع الذراع المقطوعة أثناء الحرب الى أذرع عدة في قصة (البحث في نصف الدائرة).

ويتقدم سالم العربي بشجاعة لمقابلة الملك يموت كما مات الآخرون غير أن الملك يعطي الاذن للمدينة في قصة (موت سالم العربي) وتتحول النظرة جرحاً يقض المضجع في (الجرح) ويتحول الانسان رقماً يشعر بالتضاؤل أمام نملة في (السلم) وتتحول المرأة شجرة والشجرة دمية تسعى الى الانتحار غرقاً في (السكنى في صدفة) ويسأم الدرهم قذارة الأيدي في رحلته من يد الى يد في قصة (النقود القذرة).

صفا اسلوب سالمة صالح وأشرق في قص (التحولات) والتقطت جملاً ملونة موحية عمقت الحدث: ((يجوس الطرقات يزرع فيها ضجره)) (ص55) ((توقفت النملة وحكّت رأسها وبدا له أنها تفكر لحظتها أين تتجه)) (ص67) ((كل شيئ في القرية أصبح يمتلك أرجلاً خفية يمشي عليها)) (ص82).

وأضحى سردها معبراً يحمل دلالات عدة وإيحاءات متنوعة وتخلص من التقريرية التي لمسناها في مجموعتيها السابقتين: ((انتفض الناس مذعورين كان الجبل صامتاً لم تكن صرخته، كانت صرختهم لقد خفق مثل قلب ثم تحرك منزلقاً على الأرض كان قد نام هنامن تأريخ لا يعرفه أحد واستيقظ فجأةً لينفلت من مكانه)) (ص83) ((فتشوا كان الحارس يوجه رجاله بينما كان سلام البراءة يكتسح مخاوف الجميع وهم بفتشون في وجوه بعضهم عن الخطيئة … لم يعثروا على الخطيئة لكنهم وضعوا في كل جيب تعويذة، أشعلوا البخور … وكان النهار قد امتص بعض مخاوف أهل القرية … وكان في هذه اللحظة يحاول امتصاص اللذة القصوى من شعوره بالانتصار)) (ص75-77،68) ((كان يمتطي الفرس البرونزية المصلوبة في الساحة، استل سيفه فتراجعت واذ هبط السيف لم يقطع سوى الهواء، نظر اليّ فنظرت في وجهه مباشرة شعر بالخجل فانتحب، أما السيف فقد سقط عند أقدام الفرس التي لم تغادر مكانها استدرت، استدارت الجثة وعادت تطوف شوارع رمادية تبدأ وحيث يجب أن تنتهي تبدأ من جديد في الليل كانت الجثة تبحث عن وطن)) (ص87).

وعرضت الكاتبة أفكاراً جميلةً أذابتها في تلافيف الحدث وبنية القصة: ((عاوده الضجر وداهمه احساس كثيف بالوقت لماذا لا يفعلون مصارف لادخار الوقت ككل المصارف الأخرى ؟ حين ينتهي المرء من عمله يستطيع أن يدخر باقي الوقت ليستفيد منه بعد ذلك)) (ص59) ((كل التعاويذ قد أخفقت في طرد الشيطان فلابد أن الأمر لم يعد من شأن الله أو الشيطان لكنه أصبح شراً لا يملكون ازاؤه شيئاً، وأصبح أيضاً جزءاً من حياتهم اليومية يستقبلونه بلا طقوس وبلا دهشة)) (ص79-80) ((بدا له أن النملة تفكر فيه وانها بدورها تحاول أن تعرف من أي بعد تستطيع أن تراه وظل يواصل الارتفاع)) (ص68). وقد رسمت سالمة صالح لوحات تعبيرية أغنت سردها وعمقت الانطباع النهائي في قصصها: ((في تلك العشية فكرت بالشجرة التي تبكي وبأسماك النهر وحين خرج لم تنظر من النافذة الى حديقتها المنزلية فحسب نظرت وراء السور اذ كانت قد فكرت بالشجرة والأسماك من جديد وفكرت بالوحوش أيضاً دون أن تشعر بالخوف تبعت هاجسها يدعوها للخروج الى الغابة والعالم)) (ص93-94).

((فكرت: سأذهب الى الرجل وأطلب منه أن يستعيد عينيه لكني تراجعت، فربما أعطاني عينه الأخرى ألصقها في ظهري ولن أكون قادراً على التحدث اليه فنظرته المباشرة الواثقة وابتسامته التي ترسم هلالاً حول فمه تسلبني القدرة على الكلام)) (ص71)، رسمت سالمة صالح لوحات سريالية الى جانب لوحاتها التعبيرية: ((في الشارع زرع مائة عين في وجهي، فنظرت فيه لحظة فتسلق وجهك الغاضب عنقه وانتشر في وجهه لم يعد هو ولم يصبح أنت تحركت يد محت الوجه المزدوج تكلمت اليد ولم يقل الطفل شيئاً)) (ص38) ((كانت عينه هناك قد حفرت مكانها في جلدي فأحسسته يحترق وجدت صعوبة في بلوغ ذلك الموضع من ظهري كانت أصابعي تخطئ المرة بعد الأخرى ومع ذلك فقد حاولت أن أنتزع عينه، ذلك الجسم الغريب الذي دخلني واستقر في جلدي)) (ص69-70) ((كان النمل قد حفر بيتاً له تحت جلد ساعدي الأيسر والتحم في صف طويل حتى الرسغ … النملة تمد أرجلها الصغيرة في المسام ثم تنفذ الى الداخل وتتبعها أخرى تتوسع الحفر وتأتي أعداد أخرى من النمل، كنت في حالة يتعذر معها حتى الاحساس بالتعب)) (ص16). وتجيد سالمة صالح رسم الصور الرمزية كما تجيد رسم اللوحات التعبيرية والسوريالية: ((أمر الخليفة له بعشرين ألف درهم ألقى بها الشاعر في وجه الخليفة وضحك، غضب الخليفة تلفت فلم يجد حراسه انفجر باكياً وضرب رأسه بالجدار قالت أمه: كان يفعل ذلك وهو طفل دخل رئيس الحرس: هذا الرجل أبكى الخليفة إضربوا عنقه)) (ص19) وقد تأتي الصورة عن طريق الحوار وليس في السرد فقط: ((هذه شجرة يا مولاي وجدناها في طرق المدينة ترسل غدائرها للريح والريح تصفّر.

-       ضعوها في السجن، دفنت الشجرة وجهها في كفيها وانتحبت.

-       أبدأوا العمل في مكان آخر في الموقع الجديد كانت الجذور تظهر مرةً أخرى وتعيق تقدم العمل.

-       أحظروا الشجرة وأحرقوها أمامي جاء الحراس بها، نظر الخليفة في وجهها مباشرةً

-       هذه أمي ارتمى عليها دفن وجهه في صدرها وانتحب (ص23-24).

شاعت فكرة التحول في قصص المجموعة انها ليست فكرة التناسخ البوذية بقدر ماهي فكرة التحول الانتهازية التي استقطبت كتاب الأمير (لميكافيللي) انه الحالة التي ذهب اليها بعضهم بتأثير الظروف الخارجية فهو انسان عملي يريد أن يحيا يأكل ويتناسل ويعيش دون أية مضايقة قد لا يوافقه الكثيرون الا أنه حكم بضغط ظروفه القاسية على هذا التشكيل المتحول (الانتهازي) الذي يصمه الآخرون به لأنهم لم يفهموا عمق ظروفه التي حولته هذا التحول الغريب على الرغم من صلابته وتحديه الا أنه انسان يجابه الواقع واذا ما شعر بأنه أضعف من الظروف التي تجابهه برياح عاصفة قد تقتلعه وتقضي عليه تمايل مع العاصفة خوفاً من أن ينكسر وينتهي: ((انه حلم صرت شجرة اقتلعتها الريح صرت كلباً طاردته الشرطة صرت بيتاً سكنته الجرذان صرت روحاً تآكلني القلق صرت جسداً تآكلني الجذام عدت سالم العربي فثقبوا لي جبهتي كنت أموت وأعود)) (ص53) ويشيع اسلوب السخرية الناقدة في أعماقها البعيدة عبر سردها القصصي: ((أتموا التفتيش في ملابس الرجال والنساء في البيوت وفي الخزانات والأغطية في القنوات والمزارع لم يعثروا على الخطيئة … وفّت النساء نذورهن وقطعن على أنفسهن نذوراً جديدة وأدى الرجال الصلاة في أوقاتها وفي غير أوقاتها )) (ص76) واستخدمت الخرافة لأجل تعميق البعد الذي رسمته في قصصها وكان هدفها في المسكوت عنه البعد السياسي الذي غطى قاع قصصها ولم يظهر على السطح الا من خلال الثوابت والركائز والدلالات في قصصها.

ان قصص (التحولات) من أهم القصص التي ظهرت في تأريخ الفن القصصي في الموصل بل في العراق قاطبةً.

نشرت صفية الدبوني مجموعتها القصصية (مسألة شرف) عام 1967 والمسألة الأساسية التي تناولتها قصصها الست التي ضمهم الكتاب مسألة الحياة الزوجية والحب، تدور قصتها (نحو النور) حول الانسحاق النفسي الذي تعاني منه زوجة تكتشف خيانة زوجها لها في اطار التقاليد البالية والقهر والاحباط والاذلال الذي عانت منه المرأة في اطار علاقات اجتماعية غير سليمة، تسعى (وداد) الى الطلاق من زوجها بعد أن علمت بخيانة زوجها لها مع امرأة ساقطة وتبدو وداد متحدية غير مستسلمة فهي لا ترضخ لارادة زوجها وحينما يرفض الطلاق تعتزم خيانته كما خانها، في سورة غضب عارم غير أنها تدرك خطأها قبل الاقدام على فعلتها فتهرب في اللحظة الأخيرة وتنقذ نفسها من الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه زوجها.

ان وداد تعد مثالاً للمرأة التي تحس بمساواتها مع الرجل ولكنها تأنف الزلل حينما يزل زوجها، فهي تجسد كرامة المرأة ورفضها للهوان والقهر. وتجسد قصة (مسألة شرف) الحب السعيد الذي يجمع بين الزوجين فيكّون أسرة مثالية تحيا بإطمئنان وثقة، حيث تحيا (سلوى) حياة رضية مع زوجها ولا يصيبها العقم باليأس والانطواء وانما تسعى الى افراغ عواطف الأمومة في مساعدة الأطفال الفقراء، يساعدها زوجها ويحسان معاً بأن جميع الأطفال الفقراء هم أولادهما وحينما تحاول جارة ماكرة الايقاع بين سلوى وزوجها تنتصر الثقة على الشك وتعود الجارة الماكرة بخفيّ حنين وتمضي الحياة السعيدة بين الزوجين.

وعالجت في قصة (زواج مثالي) حالة اصابة زوج بالجنون أثر موت زوجته، حينما يصاب بلوثة على أثر اصابته بمرض في المخ فيتصور أنه أهمل زوجته وكان السبب في شقائها وموتها في الوقت الذي أجمع الناس على أنهما يمثلان أجمل صورة للزواج المثالي.

وعالجت قصتها (أقوى من الحب) الحب من طرف واحد وهو حب رومانتيكي فاقع لا نجد فيه أصالة الحب الحقيقي من امتزاج الذات بالموضوع وانما يبدو قدراً مقدراً يصيب المرأة فيعميها دون قدرة منها في الدفاع عن نفسها تجاه هذه الحالة المرهقة وكأنها تنتظر ضربة القدر لها منذ بدأت تتفتح للحياة وقد أعطت كاتبة القصة في الموصل أسوةً بكاتبات القصة في الوطن العربي روحاً جديدةً، متحديةً ظلم المجتمع للمرأة فوقفت موقف الشكوى من الواقع ولكن نقله من الاعتدال الى التطرف الخيالي والعاطفي خاصةً في موضوع الحب، فقد كان المجتمع ينظر الى الحب نظرة احتقار ومهانة على أنها عاطفة تقود دائماً الى الاثم والخطيئة، وكان الحب محرماً على المرأة، واذا أحبت قبرت حبها في قلبها خشيةً من اختقار المجتمع لها ولم يكن الاختلاط بين الرجل والمرأة على نطاق واسع فقد كانت المرأة تنظر الى الرجل نظرة ريبة وشك وكانت القيود الاجتماعية تمنعها من الانفتاح على الرجل وتعوق الرجل من الانفتاح عليها.

ولم تكن ممارسة الحب لدى أكثر كاتبات القصة الا الحب الذي يقرأنه بين دفتي كتاب أو يشاهدنه على شاشة السينما، وهو في الغالب الأعم حب رومانتيكي خيالي. فقد حكت لنا قصة (أقوى من الحب) حب فتاة لكاتب مرموق يقدم على رأس وفد لحضور مؤتمر أدبي يناقشها حول قصتها التي قدمتها للمؤتمر غير أنه لا يحس بحبها فلا تجد سبيلاً لمفاتحته الا عن طريق كتابة قصة له تبثه نجواها وتكاشفه بحبها له: ((عندما ينتهي من قصتها عادة تطوف بنظرها عليها يدها ترتعش رهبة الاعتراف تشعل كيانها قصتها تذيبها بحرقة تمزق الحروف التي سطرتها، قلبها يتمزق معها لا يهم تلم أشلاءها وتغسلها بدموعها وتظل مصلوبة )) (ص94).

تحدثنا صفية الدبوني في قصتها (غنية عن حق) تحول امرأة من حياة تافهة الى حياة جادة بعد قيام الثورة وهي قصة مفتعلة وقصة: (نبأ في جريدة) لا تختلف عن أية قصة مصرية عاطفية ليوسف السباعي كانت تنشرها مجلة (مسامرات الحبيب) في الأربعينيات فتاة تحب رجلاً تتمنى الارتماء في أحضانه بينما يحتضن جسداً غير جسدها فلا تجد أفضل من احتضان أمواج النهر لها، يقرأ في الصباح نبأ انتحارها في الصحيفة يتذكر ما كان يظهر في رسائلها من ميل نحوه، ولا نتلمس ذلك في المضمون فقط وانما في الاسلوب أيضاً.

نشرت سهيلة الحسيني مجموعة قصصية باسم (الدفن بلا ثمن) عام 1968 ورواية (أنتم يامن هناك) عام 1972 ضمت المجموعة ثماني قصص تناولت مشكلات اجتماعية بشكل سطحي خارجي دون تعرف على عمق هذه المشكلات ومكوناتها الأساسية، واكتفت بعرضها بتناول عاطفي يشابه التناول الذي تناول به كتّاب الأربعينيات مثل هذه المشكلات، يدفن الأب ابنته الصغيرة بعد موتها لأنه لا يجد المال لعلاجها ويهتف بعد الدفن والدموع تنساب من عينيه (الدفن بلا ثمن) يبيع الموظف الرافض للرشوة خاتم الزواج لأنه لا يجد مالاً يصرفه على أسرته المحتاجة بعد طرده من الوظيفة في قصة (عناد) يهم الحارس بسرقة متجر مفتوح الا أن شهامته تأبى عليه مثل هذا العمل في (التجربة الأولى) يعود الطفل الى مركز الرعاية بعد تشرده وممارسات لصوصية في (علي والحنان المفقود) انهيار جدار قديم فوق أسرة فقيرة في (بلا ضمان) تخونه حبيبته وتتزوج رجلاً آخر في (ثلاثة وجوه). وفي المجموعة قصتان سياسيتان (الرسالة المهملة ونقطة البدء) في الأولى لقاء حب قديم في يوم الثورة، يتجدد ويثمر وفي النهاية تتلقى الحبيبة نعي حبيبها الشهيد بشجاعة تردد: دماء الرجال تهون في سبيل الكرامة والوطن وتواصل المسيرة على هدي كلماته التي لم تنسها.

أعلنت سهيلة الحسيني في المقدمة أن الالتزام ضرورة بالنسبة للأديب (ص13) وحينما نمضي في القراءة لا نجد مثل هذا الالتزام الا عن طريق الشعارات التي طرحتها هنا وهناك باسلوب لا يخدم الفن القصصي في شيئ وجاءت معظم الشخصيات سلبية لا تخدم هدف القاصة، حيث يبقى (مصطفى) سلبياً تجاه الفساد الوظيفي دون أن يتمكن من اصلاح هذا الفساد (عناد) ويبقى (اسماعيل) مفصولاً من وظيفته ويشل (أبو رزاق) بسبب سقوط الجدار عليه ولا يتمكن من القيام بأي عمل ولا يجد (وليد) غير الثرثرة مع الجيران متنفساً في قصة (بلا ضمان) ويسرق (علي) ليعود الى مركز الرعاية ثانيةً في (علي والحنان المفقود) وينهار (عادل) بعد أن تتزوج حبيبته (علياء) ويجد أسوأ الحلين في طلبه الى (هدى) أن تقترب منه، ويبدو غير مقتنع بها في (ثلاثة وجوه) وتموت ابنة (عبود) على الرغم من استماتته في انقاذها من مرضها في (الدفن بلا ثمن) ويموت البطل الاسطوري (ابراهيم) وهو يقاتل ليترك (زهرة) الفقيرة تجابه الحياة بمفردها مع طفلها من دون أي عون في (نقطة البدء) وتطرح القاصة الموضوع في قصة (الرسالة المهملة) باسلوب تقريري لأحداث كثيرة وأجواء متعددة في مدة زمانية طويلة، ينتهي الحوار بين الشخصيتين الى الفراق لتباين أفكارهما بطل ثوري وفتاة مشبعة بمفاهيم طبقية. وتمتد القصة فترة ما قبل الثورد وما بعدها ويردد (الثوري) أن ((لا قيمة للوقت عندي)) فهل هذا ثوري حقيقةً أم أن الثورية مجرد ثرثرة ؟ ثم ماذا ؟.

حاولت القاصة اتباع اسلوب التداعي الا أنها لم توفق وتهلهلت القصة وفقدت خصوصيتها ويبدو دور المرأة هامشياً في مسألة الانتماء والنضال ويبقى التأكيد في هذا الشأن على الرجل وحده فالشاب الثوري (نبيل) لا يقابل الا الإعراض من (سمية) التي تفضل عليه (عصاماً) الشاب الرياضي حتى أنها تهمل رسائله التي يبثها فيها لواعجه وغرامه لكنها تعود الى قراءة رسائله ثانيةً فتجد فيه الحب الصادق على العكس من عصام النرجسي الذي لا يحب الا نفسه فتندم على ما بدر منها تجاهه.

وتتناول في روايتها (أنتم يامن هناك) القضية الفلسطينية والدافع الثوري الذي خلقته في نفس الشباب العربي: يعاد (حازم) الى السجن لمشاعره الوطنية فتعكف زوجته على تربية ولديها وبعد خروجه من السجن لا يجد عملاً على الرغم من شهادته في القانون. ولم تبين لنا القاصة لماذا لم يعمل في المحاماة وهو الرجل الثوري الذي يفترض به ألا يرضخ للسلطة التي يعاديها بقبوله أية وظيفة مهما علا شأنها، يكبر ولده (رائد) ويسلك طريق والده النضالي ونفاجأ كما تفاجأ رائد بأن والده قد انحرف عن خطه الوطني وأصبح مخبراً يعمل مع السلطة ضد القضايا الوطنية يحزن رائد للخبر ويقرر الانضمام الى الفدائيين تكفيراً عن انحراف والده.

تناولت الرواية قضية النضال تناولاً عاطفياً وبدت الرؤية النضالية فيها مرتبكة وغير واضحة الأبعاد فضلاً عن ظل المرأة الباهت فيها، كما في قصصها الأخرى وكأنها ستارة ديكور مسرحي أو دمية وليست انساناً من لحم ودم، فهي تعطي المرأة واجباتها التي فرضها عليها المجتمع الموصلي من العناية بالبيت والأسرة والحرص على راحة الزوج ومباركتها النضال من دون مشاركة فعالة.

وقد بان التفكك والضعف في بناء الرواية وارتبك تسلسل الأحداث فيها فلا نجد تبريراً مقنعاً لأحداث الرواية في مقدمتها انقلاب حازم من الثورية الى الخيانة، ووضعت رائد في موقف متذبذب بين أبيه ووطنه قبل أن يختار الوطن. لماذا فعل ذلك ؟ لا نجد تبريراً مقنعاً لذلك، ولم تلجأ المؤلفة الى تحليل الشخصيات لتبرير انقلاباتها الخطيرة والسريعة، وقد لجأت الى التداعي غير أنها لم تنجح في هذه التقنية لأنها فرضت على الرواية من الخارج ولم تنبع من داخل الشخصيات فضلاً عن ارتجالية هذه التداعيات ومباشرتها ووعظيتها (ص12-19،42) وحاكت في انتقالها بين الفصول الكتّاب المصريين التقليديين أمثال يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وتحدثت عن شخصياتها من الخارج ولم تدعها تعبر عن أفكارها الخاصة وانفعالاتها التي يبررها طبيعة الموقف وجريان الأحداث، واستخدمت رسائل طويلة دون تبرير فني فقد أضعفت هذه الرسائل تصاعد الحدث. كما وردت تداعيات كثيرة فائضة لا ضرورة لها، وأثرت على تأزم الأحداث وأضعفتها (ص19). وانتهت الرواية نهاية ميلو درامية حيث أماتت القاصة رائداً وحازماً ونظيمة ووقفت (علياء) خطيبة رائد موقفاً خطابياً وهي تضم رسالة حبيبها الى صدرها.

لم تتمكن القاصة من رسم الشخصيات رسماً دقيقاً مغنياً فقد بدت الزوجة ساذجة جداً في تساؤلها عن سبب اعتقال زوجها وفرحها لأنه سجن لأسباب سياسية وهو مالا يناسب امرأة جامعية كما بدت من خلال الحوار وبدا الحوار لا يناسب الشخصيات وتكلمت جميعها بلسان واحد هو لسان القاصة من الناحيتين الفكرية والاسلوبية، وجعلت انضمام رائد الى فصائل المقاومة تكفيراً عن خطيئة الخيانة التي مارسها الأب لا بدافع الايمان بالقضية مما يوحي ايحاءاً معاكساً لما أرادت القاصة تحقيقه فضلاً عن ضعف رسم شخصية الأب (حازم) وتناقضاته السلوكية بين النضال والخيانة (ص83-96).

وتراوحت أعمالها القصصية من حيث التناول القصصي بين التقريرية: ((اسمي مصطفى أب لسبعة أطفال ومسؤول عن زوجة عملي عاطل الآن عملي السابق موظف فصلت من عملي لأنني لست مثلهم مثل زملائي الذين يحرقون البخور ويمسحون الأكتاف، أنا أب لسبعة أطفال مسؤول عن زوجة ولا درهم في جيبي لأنني لا أريد أن يدخل جيبي درهم غير شريف …)) (ص29-30) ويمضي بطل قصة (عناد) بهذا الاسلوب ابتداءاً من بداية القصة. وبين الوعظية والمباشرة ((يا ناس ألا تحسون بمشكلتي ؟! أليست لكم فلذات أكباد ؟ دينار ونصف ثمن حياة طفلة وهز رأسه يالبخس الثمن ! يالتفاهة الروح في هذه البلاد، دينار ونصف ثمن الانسان هل يسرق ؟ هذا محال)) (ص24).

وتعرض الأفكار السياسية باسلوب خطابي مرتفع الغبرة ((ولو كانت الاشتراكية ترفرف فوق مجتمعنا لما عشت بلا ضمان لأن الاشتراكية ضمان كل انسان)) (ص108) واستخدمت ألفاظاً مصرية لشخصيات عراقية ((بابا ان جئتني بالعروسة فلسوف أدعو الله ليعطيك كلما تريد)) (ص58) ويأتي السرد بعيداً عما يتطلبه السرد القصصي من ايحاء وتأثير لامعانها في الخطابية والمباشرة كما في هذا المقطع من رواية (أنتم يامن هناك): ((لا تعجبوا أنتم يامن هناك يامن تغطيكم سقوف وتحتضنكم جدران السمنت والجص والحديد، لا تعجبوا أنتم يامن هناك يامن تلف أذرعكم أعناق زوجاتكم وتلقون برؤوسكم فوق صدورهن النهد وتسكركم مع الأحلام أنفاسهن اللاهثة بالشهوة ممزوجة بأنفاس المصابيح الملونة لتلون لذاتكم وتحرسها، لا تعجبوا ان وجدت الحياة في هذه الخيمة هي الحقيقة وهي السماء التي تحتجب فيها النجوم فلا تبزغ الا من يحب النجوم ويفهم لغتها ويهوى ضياءها)) (ص12). وقد يأتي السرد مفتعلاً لا مبرر لوجوده في الرواية وكان الأولى حذفه أو كتابته باسلوب آخر أكثر تفاعلاً مع الحدث والشخصيات: ((نظرة أسامة كانت غريبة غريبة جداً أتراه يحسد البذلة الجديدة ؟ محال فهو يمتلك العشرات منها ورآه يقترب مع شلته مسلماً ثم يقول بلهجة غير مألوفة: مبروك بذلتك ياحازم، وبلا مبالاة أجاب: أشكرك)) (ص49) ولا تخلو قصصها من أخطاء لغوية أو نحوية: ((فيضاناً هائل مازال أمامه أكثر من نصف ساعة سير على الأقدام)) (ص55، 122).

نشرت سميرة الدراجي مجموعتين صغيرتين (رسالة الغفران) 1969 و (أشواك في طريق الشباب) 1970 كتبتها باسلوب لا يرقى عن اسلوب طلاب المدارس، رسالة الغفران رسالة غرامية تعبر عن حب الراوية لرجل تخاطبه بالسيد المحترم من دون ذكر لاسمه، وتقرر الرسالة موت هذا الحب في النهاية ((بل سأقول كل شيئ ماخلا الوفاء عبث ولن أبكي كما بكيت سابقاً بل سأبتسم وأمرح وألهو ولن أرجع للحب مرةً أخرى لأن بيني وبينه هذا النهر العظيم من الدموع وهذه الآهات والحسرات وسأنهي رسالتي الطويلة هذه بكلمة أخيرة هي كل شيئ ماخلا الوفاء عبث)).

ولا تتعدى مجموعتها الثانية كونها مواعظ للشباب ونصائح وأسئلة أولتها أهمية إجابتها وظهر عدد محدود من كاتبات القصة بعد حرب الخليج الثانية لعل أبرزهن (وجدان الخشاب) في مجموعتها القصصية (رمليات مدورة) وقد أهملت دراستها لوجود بحث خاص يتناول قصصها بالدراسة. و (منال الشيخ) في مجموعتها (إنصراف التوابيت) وأخريات مازلن في أول الطريق يحتجن وقتاً إضافياً لكي يدرسن. والأمر منوط بالشباب الصاعد من النقاد.

 

الخاتمة

 تأخر ظهور الفن القصصي في العراق قياساً لظهوره لأول مرة في مصر من خلال رواية (زينب) 1914 أول رواية عربية. في زمن كان ينظر فيه الى الفن القصصي أنه أدب غير أخلاقي يبتعد عنه الكتاّب الى فنون أدبية أخرى لها مكانتها الأدبية والاجتماعية مثل الشعر والمقالة والخطابة وفن الرسائل. مما دفع محمد حسين هيكل الى عدم تسجيل اسمه على الرواية وسجل (فلاح مصري) اسماً مستعاراً كي لا تؤثر كتابة الرواية على سمعته وهو من أسرة أرستقراطية ينتظره مستقبل زاهر. وكان قد كتبها عندما كان يدرس الحقوق في جامعة السربون بباريس، ولم يسجل اسمه على الرواية الا بعد عام 1930 عندما مثلت زينب للسينما من قبل سيدة أرستقراطية متحررة هي (بهيجة حافظ) أمام ممثل أرستقراطي هو الآخر (زكي رستم) ومن إخراج (محمد كريم) أول مصري يدرس فن الإخراج في أوربا.

واذا كان الأمر كذلك في مصر فانه أشد حصاراً في العراق البلد الذي يعد متخلفاً بالنسبة للانفتاح الثقافي في مصر، وعلى الرغم من ذلك فقد كتب شاب موصلي شارك في الحركة الوطنية هو سليمان فيضي الموصلي المحامي وابن شيخ جامع الامام ابراهيم قرب (سوق الشعارين) أول رواية عراقية هي (الرواية الايقاظية) 1919 وهو أكثر جرأة من محمد حسين هيكل لأنه سجل اسمه على الرواية دون خوف.

ولما كان ينظر الى فن القصة نظرة ذوقية فمن المسلّم به أن تبتعد عنه الكاتبة العراقية ولا سيما الكاتبة الموصلية خوفاً على سمعتها، وبعد أن انتشر الفن القصصي بأقلام كتّاب لهم مكانتهم الاجتماعية مثل محمود أحمد السيد وذنون أيوب وعبد الحق فاضل الصيدلي وجعفر الخليلي وعبد المجيد لطفي قبيل الحرب العالمية الثانية. برز في الموصل كتّاب للقصة في الخمسينات والستينات مثل غانم الدباغ وعمر الطالب وأنور عبد العزيز وغيرهم باشرت المرأة بكتابة القصة في أواخر الستينات مثل سالمة صالح وصفية الدبوني وسهيلة الحسيني. وحاولت أخريات كتابة القصة على استحياء مثل تغريد الجلبي وسميرة الدراجي وأسماء ظهرت في الصحف الموصلية وما لبثت أن اختفت، وبقيت سالمة صالح في مجموعتها (التحولات) 1975 هي الأفضل بين كاتبات القصة ثم اغتربت خارج العراق ولم يصلنا نتاجها. ودفعت حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من حصار وتضخم وهجرة وجوع الى بروز أسماء، كتبن القصة على استحياء ثم اختفين لعل أبرزهن د. وجدان الخشاب التي كان لقصصها طعم خاص، ولا أذكر المبتدئات في كتابة القصة في الصحف لأنهن لم ينضجن بعد في كتابة هذا الفن الصعب.

الهوامش

(1)   الرواية العربية في العراق، عمر الطالب ص64، م. النعمان، النجف.    

(2)          كاتبات القصة في العراق، عمر الطالب ص3،2، مجلة الأقلام، دار الشؤون الثقافية ع7/1978.

(3)   لأنك انسان، سالمة صالح ص105، م. الجمهور، الموصل، 1961.

(4)   م. ن، ص15.

(5)    م. ن، ص23.

(6)   مشكلات المرأة وكاتبات القصة في العراق، وقائع الحلقة الدراسية في جامعة السليمانية 10-12 نيسان 1977.

(7)   في ركب الحياة، سالمة صالح، ص55، م. الجمهور، 1963.

(8)   م. ن ص55.

(9)   م. ن ص67.

(10)     م. ن ص82.

(11)     م. ن ص83.

(12)     م. ن ص68،77،75.

(13)     م. ن ص87.

(14)     التحولات، سالمة صالح، ص59، بيروت، 1975.

(15)     م. ن ص79-80.

(16)     م. ن ص68.

(17)     م. ن ص93-94.

(18)     م. ن ص71.

(19)     م. ن ص38.

(20)     م. ن ص69-70.

(21)     م. ن ص16.

(22)     م. ن ص19.

(23)     م. ن ص23-24.

(24)     م. ن ص76.

(25)     مسألة شرف، صفية الدبوني، ص94، القاهرة 1967.

(26)     الدفن بلا ثمن، سهيلة الحسيني، ص13، بغداد 1968.

(27)     أنتم يامن هناك، سهيلة الحسيني، ص42،19،12، بغداد 1972.

(28)     م. ن ص19.

(29)     م. ن ص83-96.

(30)     م. ن ص24.

(31)     م. ن ص108.

(32)     م. ن ص58.

(33)     م. ن ص49.

(34)     م. ن ص122،53.

(35)     أشواك على طريق الشباب، سميرة الدراجي، ص15، الموصل 1970.

 

 

 

 

مساهمة من الدكتور ذنون يونس الطائي من مركز دراسات الموصل