موقع الدكتور عمر الطالب

 

عواصف الطالب ونسماته

الاهداء إلى روح الناقد الموصلي د. عمر الطالب

بقلم الدكتور أحمد جار الله ياسين

 

 

قبل أن نتعرف عليه في أول محاضرة جامعية كان قد مسح دمعتي كلكامش بأصابع مرتعشة حين انزلقتا من عينيه على قبر أنكيدو ،وقاده عبر أزقة الموصل مرورا بحي الطيران إلى الحكيم انو بشتم بحثا عما يسمى  بعشبة الخلود ، ثم انقطعت أخبارهما معا ....توفي كلكامش في ظروف غامضة ..وظل حيا عمر الطالب ،حتى تصور بعض السومريين بأنه قد استأثر بتلك العشبة بعد كلكامش ..لكننا جميعا علمنا أنه قد عقد صفقة سرية مع الموت في أيار عام 2008 .وكان قبل ذلك ...

  قد رحل مع امريء القيس في معلقته ودفعه نحو التمرد على سلطة الأمارة من أجل سلطة الشعر ، وانتقد زهير بن أبي سلمى على تنقيحا ته المتكررة لقصائده ،ووقف مع أبي تمام وتجديداته ضد الآمدي والبحتري ..اكتشفنا ذلك حين عثرنا في حقيبة أبي تمام البريدية في الطريق إلى الموصل على رسالة لعمر الطالب  يقول فيها : لا تلتفت إليهم ..يا أبا تمام إنني أفهم ما تقول ..

 في صباحات كلية الآداب الشتوية كان يغيب للحظات ليحرض جريرا على هجاء الفرزدق ، وفي المساء يفشي للفرزدق في مقهى ما  عيوب جرير ...مرة أخبرنا بأنه ندم كثيرا لأنه لم ينصح المتنبي بعدم العودة إلى العراق حيث قتل في الطريق إليه ،وقال لنا بأن الشعر العربي خسر نصف تاريخه العظيم بموت المتنبي ..والنصف الآخر مات بموت السياب ..

 لزم المكوث في الدار ،وتوارى عن الأنظار حين استولى المغول على بغداد عام 2003 ولم يفتح نوافذه أبدا حين مر التتار وهولاكو وتيمورلنك ولجمن من تحت نافذة الدار كان منشغلا بالتأمل بعينين حزينتين  في لوحة بيكاسو الجورنيكا ..  
 لم نره باكيا أبدا ..لكن كلما ابتسم ساخرا كنا نلمح رذاذا من الدمع السري يتناثر على السبورة وأوراق المحاضرات و(مكرفون) المناقشات الجامعية ..أدركنا أنه كان يغلف موته القادم بورق الابتسامات الشفاف ..

لم يعلم أحد ما الذي كان يبكيه سرا سوى معزوفات الموسيقى العالمية التي كان يحثنا على الاستماع إليها ..ولأن الموسيقى ليست كلمات لم نفهم ماكانت تقول ..لكننا أحسسنا بها وبغياب قادم ..

كان صريحا جدا في أرائه مثل حافة سكين ..

وحاسما في أحكامه مثل رصاصة قناص أخيرة ..

وصلبا في الدفاع عنها مثل شجر اللوز في أغاني فيروز ..

وكان غامضا مثل شجرة الدفلى في قصيدة السياب ..ومثل الطيور في أفلام هيتشكوك التي يحفظها عن ظهر قلب ...فقد خصص للفن السينمائي ركنا كبيرا في محفظته النقدية ..إلى جانب ثقافته الفنية في أجناس الأدب كلها ..وإلى جانب ثقافته الموسوعية في التاريخ والاقتصاد والغناء والموسيقى وأسرار الموصل الصغيرة والكبيرة ..ففي جيوبه الأنيقة تجد آلاف الأجوبة عن مئات الأسئلة ..

 ومنه تعلمنا إزالة الأسلاك الشائكة بين فن وأخر ..وبين منهج نقدي وأخر ...وتركنا نظرية التقوقع في محارة واحدة ..ومنه تعلمنا أيضا العبور إلى الضفة الثانية في الحياة والتدريس..والنقد ..والحوار .. لأن المكوث على ضفة واحدة لن يعلمنا إلا نصف أسرار النهر الذي يمر أمامنا .

 وكان أنيقا حتى آخر ساعات لقائه بالموت (الثعلب العجوز الملتحي بالورق الأصفر والرموز )مثلما يقول البياتي ، ومثلما تعلمنا في النقد من الدكتور عمر الطالب أن ذلك الثعلب هو الموت ..

وكان يظهر فجأة للباحثين عن المعرفة ويطل بعينين لامعتين من بين رفوف الكتب فيثير ركام الغبار عن نافذة العقل ..وكان يغيب أياما ليظهر ثانية على غلاف كتاب جديد هو ثمرة ذلك الغياب ..مرة غاب أعواما واكتشفنا بأنه يخط بالطباشير كلمات نقدية على سبورة في بلاد المغرب العربي ....

وكان يطرح بأسلوب تدريسي  مشوق  علامات الاستفهام في طرقات الطالب الجامعي ، ويستفزه من أجل البحث عن عدة إجابات مختلفة لكل علامة ، ولذلك مرة في إحدى محاضرات السنة الأولى للماجستير ، رسمت وجهه سرا بنصفين النصف الأول فوتغرافي واقعي والثاني كان بهيئة نافذة مفتوحة تتطاير منها عشرات من علامات الاستفهام وحين رآها فيما بعد ابتسم ابتسامة غامضة وطلب مني الاحتفاظ بها لديه ..على الرغم من أن زملائي توقعوا –في الأقل – طردي من قاعة المحاضرة بسبب تلك الصورة السريالية ..

وكان عجيبا ففي وقت واحد تجده يتجول سيرا على الأقدام في شوارع الموصل يرصد ما فيها من تفاصيل يومية ،ويدوِّن ذلك كله في نصوصه الأدبية والبحثية ،وتجده كذلك يتمشى في الطريق إلى مؤتمر ثقافي أو ندوة أدبية حاملا على كتفيه أكثر من سبعين عاما من الحياة المكتظة بالمواسم الأربعة ..وحين تلتفت إلى قاعة مناقشة الرسائل الجامعية تجده مناقشا لامثيل له ..ينفث بكلماته سحرا على مسامع الجمهور الذي يجلس صامتا مندهشا من المعلومات الدقيقة والملاحظات العلمية الحاسمة التي تتناثر بهدوء مسرحي من ذاكرة الدكتور عمر الطالب ...الأستاذ الجامعي الوحيد الذي تستقطب محاضراته أكبر جمهور من الطلبة سواء في المحاضرات –ومن دون التهديد بورقة الغيابات – أو في مناقشة الرسائل الجامعية ...

 

استاذنا الراحل المبدع عمر الطالب

لقد أثرت بإتقان العديد من العواصف المثمرة ..الجامعية والرملية والثلجية والعلمية والبحثية والفكرية والأدبية والموصلية والفنية ..العواصف التي رفعت الغبار عن الكثير من الحقائق ... ولن يكون غيابك العاصفة الأخيرة أبدا...

ومثلما تخرج من معطف غوغول الاديب الروسي قصاص مبدعون فقد تخرج من معطفك العاصف ..كثير من الأجيال الأكاديمية المتخصصة بالأدب والنقد ..وسيواصلون فن إثارة العواصف من بعدك ..فثمة المزيد من الحقائق المعرفية بانتظار إزالة الغبار عنها .. او التامل فيها تحت نسيم هاديء.

 

د. احمد جارالله ياسين