الصفحة الرئيسة لموقع الدكتور عمر الطالب

 

قـراءة فـي الحكايـة الشعبيـة والقصـص مجهـولة المؤلـف

للأستاذ الدكتور عمر الطالب

أجرى الحوار سمير عبد الله الصائغ

 

    الحكايا الشعبية تلك التي اجتاحت الكل , ملكتهم وملكوها.... سيرتهم... وربما.... سيروها.... هم ومن قبلهم ومن سيأتي بعدهم..... لا يقل لي أحد انه لم يتأثر, لم يسمع , لم..... لم.

    كلنا أصغينا للجدات وكبار السن الأقارب وغيرها، والتصقت تلكم الحكايا بأرواحنا وعقولنا، بعضها من بيئتنا، من موصلنا، السبع بنات والسبعة بنين , اغات أوف, الدرويش, جنجل وجنيجل، زين بن ربابة , الأمير نور الزمان والأميرة فتيت الرمان, السبع مطلقات. ست الستوت , الملك الرعاش ولعبة الصبر.والاخر سمعناه ووردنا ( ولو أنه ليس موضوع بحثنا ) عبر الحروب والتجار والرحالة ألأميرة النائمة, وأقاصيص الجان وألأميرة والأقزام السبعة, و علي بابا والأربعين حرامي ( وردتنا وهي من بيئتنا ؟!) وبعد فان الهدف من هذه الحكايا هو الأرشاد والتوجيه والأستفادة من ( مغزى) مافيها من توجه نحو الخير ونبذ الشر, ففيها النقد اللاذع وكذا العبرة مما يقع للشر في نهاية المطاف من انهزام وانمحاق. و ليست الحكايا هذه متخصصة في وجه واحد من أوجه الحياة , بل لها وجوه ومناحي متعددة... كما ان لها في كثير من الأحيان توجه سياسي في النقد للحكام وأسرهم..... وللدين أيضا شأن كبير في تلك الحكايا اذ أن منها ماورد في قصص ألأ نبياء ( صلوات الله عليهم أجمعين) او ما هو ماخوذ من تلك القصص و عظاتها. ولا شك ان كثيرا بل قل كل كتاب القصة والرواية والشعر وخصوصا كتاب المسرح وظفوا هذي الحكايا جزئيا او كليا في منجزاتهم. وتتوخى الحكايا (أو من ألفها....؟! ) , أن تساير عقول ومفاهيم عامة الناس لذا جاءت بسيطة سلسة سهلة الفهم حتي على الأنسان الأمي وقسما منها جاء على لسان الحيوان في الموصلية منها والأجنبية... كما في حكاية القطاية والغزال والحمار....وكليلة ودمنة للحكيم (بيدبا)....

    للأستزادة التقينا الدكتور الباحث... عمر محمد الطالب.... سألناه:

 

س: كلنا نجهل متى بدأت الحكايا.. أية حكاية.. في أي زمان... أي مكان.. ومنها... حكايا هذي المدينة.. ماذا ترى؟

ج: الحكاية الشعبية: أسلوب اجتماعي هدفه الإصلاح والتقويم والتوجيه والموافقة في مجال الحياة العامة. لذا نجد فيها النقد اللاذع والسخرية المرة والنادرة، فضلا عن العبرة الرادعة وعرض حقيقة الواقع الأليم.

ولا بد من تطور الحكاية الشعبية مع الزمن وظهور تأثير البيئة فيها واضحا فهي نتيجة تطور المجتمع وهي تتبعه في تنوع مصالحه وتعدد أغراضه ولا تقتصر على جانب واحد دون آخر، بل تشمل جوانب البيئة المختلفة في أسلوب التواصل والتعامل بين الأفراد والجماعات في نقد أسلوب الحكم والحكام وما له علاقة بالدين والتدين وحياة الأفراد الواضحة والمستورة.

وبهذا التفاعل بين الحكاية والبيئة أصبحت الحكاية الشعبية وعاءاً لكثير من أحداث التاريخ وتصويرا شعبيا له. على صدر الإحساس الشعبي العميق لهذه الوقائع. فالحكاية إذن  "استجابة مباشرة للإحساس بالحاجة إلى ضرب من التمييز بين إطار قصصي أدبي وآخر يتسم بالحرية والمرونة ومسايرة العقول والامزجة والمواقف" كما يقول استاذ الادب الشعبي الدكتور عبد الحميد يونس.

وقد بدأت الحكاية مع فجر البشرية وهناك دلالات عليها في كهوف المكسيك عند القبائل (الكيتشية) وظهرت في (سومر) مع ملحمة كلكامش وفي بابل واشور. وفي الهند من خلال (المهابهارتا) وعند الإغريق من خلال أساطيرهم وما رواه هوميروس في الالياذة والاوديسا من حكايات جميلة وفي الشاهنامة للفردوسي الفارسي وفي (الاينيادة) الرومانية لفرجيل الشاعر الروماني، ثم في كليلة ودمنة والف ليلة وليلة والقص الشعبي العربي مثل الأميرة ذات الهمة والتغريبة الهلالية وعنترة وسيف بن ذي يزن وعلي الزيبق وشواهي ام الدواهي والمقامات ولاسيما مقامات بديع الزمان الهمداني والحريري ورسالة الغفران لابي العلاء ومن سار على منوالها والمقامات وقصص الانبياء وقصص الجان.. الخ.

أما حكايات الموصل الشعبية فقد نبعت من الظروف الصعبة التي مرت بها هذه المدينة العريقة وبحكم اتصالها منذ القديم بحلب وبغداد واسطنبول وغيرها من المدن فدخلتها حكايات كثيرة وقد جمعت ألف حكاية موصلية تنتظر النشر.

وجمع قبلي الأستاذ احمد الصوفي احدى وعشرين حكاية في كتابه (حكايات الموصل الشعبية) عام 1962 م.

 

س: هناك شرق وغرب.. هل بدأت تلك الحكايا في الزمن الأسطوري (على ما أرى)، أم في الغرب... أي مثلا.. أسبقت الهند، فرنسا في ذي المجال؟ وهل كان لها تأثير (هنا).. أم.. ماذا؟

ج: نعم بدأت الحكاية في أزمان غابرة قد تصل إلي زمن الكهوف، عندما كانوا يجلسون في المساء حول النار، ويأكلون ما اصطادوه ويروي كل واحد منهم ما صادفه في يومه ويضفي إليه من خياله الشيء الكثير، لأن الخوف من المجهول والخوف من الحيوانات الضارية والخوف من العدو المنافس الذي يسعي للحصول على الفريسة يفتق الخيال الذي سرعان ما يتحول إلى وهم، فيضفي على الحدث الحقيقي أوهامه التي تؤطرها الظواهر الطبيعية العاتية كالعواصف والرعود والبروق والسيول والفيضانات والزوابع والبراكين والزلازل. كل هذه الأشياء مادة خصبة للوهم تضفي على الواقع جوا أسطوريا يتوالد في الحكايات العديدة. ومن هنا لا نستطيع أن نقول أن الحكاية شرقية أم غربية. إنها إنسانية، حيث يكون تجمع إنساني تنشأ الحكايات.

أما الحكايات المتداولة فقد بدأت كما نعرف في الهند من خلال (كليلة ودمنة) و(ألف ليلة وليلة) وتطورت عند العرب في المقامات والمنامات والقصص الشعبي وأصبحت فنا في الغرب أولا في فرنسا من خلال قصص الحيوان التي سردها شعرا لافونتين، والتي تأثر بها أحمد شوقي في قصصه على لسان الحيوان التي نظمها شعرا، ثم من الدانمارك من خلال قصص (هانس كريستيان اندرسن) وفي ألمانيا من خلال حكايات (هوفمان).

وقد تأثروا بالاساطير الاسكندنافية التي كانت مجهولة وكانت سببا في ازدهار المذهب الرومانتيكي منذ القرن السابع عشر والذي تغلب على المذهب الكلاسيكي المتأثر بالاساطير والحكايات الأغريقية والرومانية.

وعمت هذه الحكايات أوربا والعالم وانتقلت إلينا من روسيا أولا عن طريق استنبول ثم من فرنسا عن نفس الطريق بعد أن استولي العثمانيون على الموصل والجزيرة.

وهناك شبه كبير بين حكايات الموصل الشعبية والحكايات في حلب لأنهما على خط تجاري واحد.

 

س: نرى تداخلا لحكاية رويت في بلاد فارس، قد نراها ونسمعها أو ما شابهها في أقصى المغرب العربي، أهو ترابط أم ترادف أم تناص؟! وهل مرت بمدينة الموصل (حيث لذا سميت بهذا الاسم) أم ماذا؟

ج: إن الحكايات تنشأ في مكان ثم تنتقل من بلد إلى آخر بحكم الجيرة أو العلاقات السياسية أو التجارية أو الاقتصادية أو الحروب. لذا أرى أن الحكاية عالمية موطنها دول عدة تتحول إلى أسلوب يلائم أفكار وعقائد وأديان تلك المناطق فلا عجب أن تنتقل الحكاية الفارسية إلي المغرب عن طريق العرب لأنهم حكموا من الصين إلي المحيط الأطلسي. وقد وجدت أثناء تدريسي في المغرب بين أعوام 1984 - 1989 تشابها كبيرا في حكايات مدينة (فاس) المغربية، والحكايات الموصلية بل أكثر من ذلك في العادات والتقاليد والمعتقدات والمأكل وكان بودي أن أقيم دراسة بين الموصل وفاس إلا أنني انشغلت بالتدريس هناك.

وإذا قرأت قصص الكاتب الروسي جوجول (حكايات من قرية دنكا) تجد شبها كبيرا بين تلك الحكايات والحكايات الموصلية، إنها ليست ترادفا ولا تناصا؛ بل هو ترابط متأثر بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان أو بالانتقال السكاني كما حدث لبعض القبائل العربية التي انتقلت الى الشمال الافريقي وأخذت معها الحكايات وحورتها بما يلائم البيئة الجديدة.

إنها التفاعل الحضاري اكثر مما هي تناص او ترادف.

ومرت هذه الحكايات بالموصل وشكلت بما يلائم البيئة والظروف والأجواء في الموصل وسميت حكايات موصلية لها مذاقها الشعبي الموصلي الحميم وأن لم تكن في أصلها حكاية موصلية لكنها تشكلت بهذا الشكل مع مرور الزمن.

 

س: نحن نتحدث عن الحكايات الموصلية؛ لكن لا بأس أن نشتط قليلا للتعريف بما هو وراء هذه المدينة، نقول الف ليلة وليلة، خزين هائل.. أكانت حكايا فارسية، أم هندية، أم خليط لشعوب، والمؤلف أو المؤلفون.. مجهول أو مجهولون أيضا؟
ج: ألف ليلة وليلة منبع لحكايات كثيرة لا حصر لها. في الأصل هندية (الهزار أفسانة) وبعد ان ترجمت إلى الفارسية أضيفت لها حكايات فارسية وبعد أن ترجمت للعربية أضيفت إليها حكايات عربية تظهر البيئة المصرية واضحة، وفي بعضها تظهر البيئة البغدادية.

إلا أن ما أضيف إليها من الحكايات العربية قليل بالنسبة للأصل الهندي في الهزار أفسانة الأصلية. وهناك دراسات عدة حول هذا الموضوع لعل أهمها دراسة د. سهير القلماوي عن ألف ليلة وليلة.

ومؤلف الهزار أفسانة غير معروف وكذلك ما أضيف إليها من حكايات فارسية وعربية لأن الحكاية أصلا هي ضمير الشعب كله وليست فكرة لشخص معين.

 

س: كليلة ودمنة لذاك الحكيم الهندي او الفارسي (بيدبا)، كانت على لسان الحيوان، أما أفيد منه الإنسان؟

ج: جاءت حكايات (كليلة ودمنة) الهندية أصلا على لسان بيدبا الفيلسوف ولكن هل حقا هو مؤلفها؟ أم أن مؤلفها مجهول كأية حكاية شعبية؟ لأنها تعبر عن ضمير الشعب.

وكليلة ودمنة حكايات سياسية ونقد لاذع للنظام السياسي في عصرها. فهل كانت الهند على درجة عليا من الديمقراطية آنذاك بحيث تسمح لشخص أن ينقد حكامها وأن كان فيلسوفا مثل بيدبا؟ أم هو أسم وضعه القاص الشعبي يبصر به الحكام على سوء طريقتهم في الحكم؟!

أظن الاصح هو ان اسم بيدبا موضوع وليس مؤلف كليلة ودمنة الحقيقي. وعندما ترجمها ابن المقفع من الفارسية الي العربية لابد أنه حرف فيها بما يلائم الحكم العباسي وعصر أبي جعفر المنصور ذاته. وكانت هي السبب في اتهامه بالزندقة، وقتله بشكل بشع ليكون عبرة لغيره ممن يحاول نقد نظام الحكم فرمي في تنور مسجور إلى درجة الالتهاب حتى مات.
ومن هنا نستدل على ان (كليلة ودمنة) حورت عندما ترجمت إلى الفارسية بما يلائم الجو الفارسي كما حورت عندما ترجمت إلى العربية بما يناسب الجو العربي. وهذا هو الذي أغضب الخليفة أبي جعفر المنصور من ابن المقفع ودفعه لقتله.


 

عن جريدة (الزمان) --- العدد 2198 --- التاريخ 29 / 8 /2005