الصفحة الرئيسة لموقع الدكتور عمر الطالب

 

القـلعـة

موصليات - العدد التاسع - تشرين الأول 2004

بقلم الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب

 

بين قره سراي وباشطابيا على ضفة نهر دجلة اليمنى في الموصل يقع مزار (يحيى بن القاسم) بعتبته الفريدة في طرازها المعماري ومحرابها الذي يمثل الزخرفة الإسلامية وقد تآكله القدم وأصيبت العتبة الفريدة الجمال بشرخ طويل لم يستطع مفتي الموصل وشاعرها (حبيب أفندي العبيدي)(1) ان يلحم الشرخ لا بكلماته الشعرية ولا بهجائياته للسلطة على الرغم من انه سكن فيه مدة ليست باليسيرة وأقام مجلسه في تلك المنطقة النائية التي طالما زارها الموصليون في الربيع حيث العشب الأخضر وشقائق النعمان والدفلى. ولا ليلاً حيث يطوف الجان حول القلعة ويتراهن رجال المدينة الأشداء على من يستطيع ان يدق سكة قرب باشطابيا.

وما أكثر العقول التي هربت من جماجم أصحابها لانهم دقوا السكة على طرف (زبونهم)(2) من شدة خزفهم وارتباكهم وحسبوا ان الجان أمسك بهم ومحال ان يفلتوا منهم وفي الصباح عندما يأتي الرجال للتأكد من ان عنترة قد دق السكة فعلاً يجدونه قد أصيب بلوثة وذهب عقله لا وراء (عبلة)(3) او (النوق العصافير)(4) بل وراء جنية ظهرت له وغازلته وقضى معها ليلة عمر او عفريت بطول القلعة وضخامتها أوسعه ضرباً وأوجع كل مفصل من مفاصل جسمه أما أولئك الذين يدقون السكة ويعودون فيرتفع مركزهم وتحمل النسائم بطولاتهم وشجاعتهم. أما خندق القلعة (سردابها) فيروي السباحون الماهرون انها مليئة بالمدافع والأسلحة والعتاد. ما أكثر السباحين فقد احتجزه السرداب واصبح طعاماً للاسماك ومصاحباً ل (اما فريش الأقرع)(5) الذي يعابث النساء عندما يذهبن عند الفجر لغسل الملابس بـ (الكيل)(6)و (الخاطور)(7). والشباب يتسابقون في الصعود الى أعلى القلعة ليعيدوا في ذكرياتهم بطولة أهل الموصل عندما غزا (نادر شاه)(8)كركوك وأربيل وبغداد واتجه صوب الموصل ظناً منه أنها لقمة سائغة يستطيع بعد احتلالها أن يغزو الدولة العثمانية في قعر دارها ويرفع مجد الدولة الصفوية الفارسية بقطع السبل والموارد عن الدولة العثمانية وقدم نادر شاه (طهماسب)(9)بجيش لجب يتبعه الخدم والغجر والخدم. وما أن سمع والي الموصل (حسين باشا الجليلي)(10)بالخبر عام 1748م حتى دعا رجال الموصل للاجتماع في (الجامع الاحمر)(11) وقال لهم كلمته الشهيرة (الحياة او الموت، الشرف او الذل، الحرائر او الجواري) فاشتعلت الدماء في صدور أهل المدينة ووضع كل موصلي خطبة حسين باشا قرطاً في أذنه وعزم على الدفاع عن أرضه وعرضه وبدأت مدافع طهماسب تصب حممها على المدينة وترد المدافع الموصلية دون أن تتلقى مساعدة من أحد فقد هرب سكان القرى والتجأوا الى أسوار المدينة وجاءت جماعة من سوريا أثارتها الحمية للدفاع عن المدينة العريقة او لاتقاء شر طهماسب الذي كان عازماً على غزو سوريا بعد احتلال الموصل، وتلاحمت السيوف عند القلاع وتركت (الدانات)(12) فراغات في أسوار القلعة فسارع البناؤون لتشييدها وعندما ازداد الهجوم شراسةً وضعوا أجساد الموتى فوق السور وينوها بالجص والحجر. ولما شعر طهماسب أن جيشه اللجب لا يستطيع الاستيلاء على القلعة لجأ الى الحيلة فحفر نفقين في أسفل القلعة وملأها بالبترول أملاً باحراق القلعة برمتها فاذا شرارة تحرق البترول وتشعل الجنود الذين كانوا يدبرون هذه الحيلة. وفي اليوم الاربعين أحس طهماسب بالعجز فأرسل الى والي الموصل حسين باشا الجليلي يطلب الاجتماع به لتسليم المدينة فأرسل له الوالي مفتي الموصل وقائدها وابن عمه ومعهم هدية وعرض بالانسحاب عن المدينة فتردد طهماسب ثلاثة أيام وصحت المدينة في اليوم التالي فلم تجد أثر لجيش طهماسب الا أنه ترك خلفه خدمه وغجره ومرضاه. بعد أن تفشى بهم وباء الطاعون.

هذه القلعة التي تعد رمزاً لبطولة اهل الموصل يكثر النساء والرجال حولها في الربيع فهي متنزه لاهل المدينة حيث تعد (زملات)(13)الطعام والبيض المسلوق و (الكشكا، وكبة البرغل والدولمة والمخللات)(14)ويتصايح الباعة (حلاوة الخضر، حلاوة الشكر، الكركري، حبة الخضراء، حب القرع، حب الشمزي، السسي، اللوزينة، شعر البنات، المعسلة، حلاوة من السماء)(15) ويتهافت الاطفال والنساء بأيديهن المخضبة بالحناء وشفاههن المدبوغة ب (الديرم)(16)لشراء (القضامة)(17)وانواع المكسرات والحلويات وتسمع هنا وهناك طاسة او طستاً مقلوباً تدق عليه الأيدي وتغني أصوات لم تعتد على الغناء فتبدو مشروخة زاعقة لم يعرف التدريب اليها سبيلاً ويعتلي الشباب المتباهون بجمال أجسادهم قره سراي ويقفزون الى الماء والفتيات ينظرن ويتأملن ويحلمن والسباق قائم على قدم وساق بين السباحين الماهرين، وقد علوا الايوان الذي كان يأمر وينهي منه (سلطان لؤلؤ)(18) الذي نصبه آخر الأمراء الأتابكيين وصياً على ولده الصغير بعد ان أصبح أميراً. الا أنه غدر بالأمانة وكان هو الحاكم الناهي وعندما سار جيش (هولاكو)(19) قاصداً الموصل أرسل اليه سلطان لؤلؤ الهدايا مع ولده وقادته ليرده عنه الا أن هولاكو أرسل في طلبه واستولى على كل ما يملك وأخذ ولده الى فارس ونكل به ووضعه في جلد خروف وعلقه في شمس آب حتى هرأ الدود جسده. وضرب مثلاً لكل متسلط جبار.

وحار (كاظم الساهر)(20)أين يصور أغنيته الجديدة وبعد تفكير اختار قلعة باشطابيا وغنى هناك وطرب المراهقون وانتحب (ابراهيم الموصلي)(21)على ما آل اليه الغناء أما (اسحق الموصلي)(22) فهرب من الموصل الى بغداد وغنى للرشيد(23) أجمل ألحانه ومرت الايام وانتقم طهماسب لهزيمته أمام رجال الموصل الاشداء فتحين الفرصة بعد ان اختلط سكان المدينة حابلهم بنابلهم وجاء في جيش لجب ولم يحارب هذه المرة بل خرج في استقباله أتباع سلطان لؤلؤ وسلموا له المدينة وعندما دخلت الدبابات والمدرعات وأحدث آلات القتال وحلقت الطائرات في الجو وسادت الفوضى وكسرت الأبواب وتحول أراذل اهل المدينة الى وحوش وسرقوا المصارف والمحال ونكلوا بالأبرياء. سرت اشاعة بين جيش طهماسب أن قلعة باشطابيا المهدمة عادت الى سابق عهدها. فأسرعت القوات الغازية وأحاطت بالقلعة ووجهت أفواه المدافع نحوها. وخرج كبيرهم يتفقد المعركة فلم يجد غير أطلال قلعة فأسرع يتسلقها بشعره المحلوق (نمرة صفر) وبزته العسكرية فلم يجد مقاومة ومضى يتسلق ويتسلق وكان صبية يلعبون (بوليس وحرامية) لعبة الاطفال المشهورة في الموصل ويرمون طلقات جوفاء من مسدساتهم المصنوعة للعب وتزجية الوقت فاختبأ القائد وراء صخرة ونظر الى دجلة من تحته تنساب بهدوء فأحس بمثانته تمتلئ بمياه كدرة وأراد أن ينافس دجلة في انسياب مائها فأطلق إشارة الى قواته بالهجوم. وبعد أن انتهت المعركة وسكنت القلعة الرصاص تقدم طهماسب الى القمة فرأى الدماء تسيل من عدة أطفال كانوا يلهون في قمة القلعة وبدأت دماء الأطفال تهدر مثل شلال فجرفته وألقته في دجلة ورفضته دجلة فصعد مثل السمكة التي تصطاد بالديناميت وكان فريش الأقرع في انتظاره فسجنه الى مزبلة التأريخ. وعادت قوات طهماسب تعلن فتحها للقلعة بعد خمسين وثلاثمائة سنة من هروبها أمامها. 

الهوامش :

(1)حبيب العبيدي : مفتي الموصل وشاعرها (1882-1963).

(2)لباس لأهل الموصل يكون مفتوحاً من الامام ويحكم لفه على جسم الرجل بحزام.

(3)حبيبة عنترة : في السيرة الشعبية عنترة.

(4)نوق بيضاء : طلبها المهدي والد عبلة مهراً لها في السيرة الشعبية عنترة.

(5)حيوان خرافي : نصفه بشر ونصفه حيوان يذكر في الحكايات الشعبية الموصلية ويعيش على شواطئ دجلة في الموصل.

(6)الكيل : ترسبات نهرية كانت النساء تستخدمها الى وقت قريب وتقوم في التنظيف مقام الصابون.

(7)قطعة خشبية تضرب بها المرأة الملابس عند غسلها لغرض تنظيفها.

(8،9)مولى وقائد عند ملوك الدولة الصفوية استولى على الحكم واصبح حاكماً باسم (نادر شاه) ويسميه اهل الموصل طهماسب وكان طموحاً وأراد في استيلائه على العراق الاستيلاء على الدولة العثمانية الا أن اهل الموصل صدوا هجومه وجعلوه ينسحب عام 1748.

(10)هو جامع الخضر الموجود الآن على شاطئ دجلة مقابل الإعدادية الشرقية.

(11)والي الموصل والشاحذ لهمم اهل المدينة في صد الغازي طهماسب.

(12)القنابل.

(13)الطعام الذي يوضع في السلال عند الخروج الى النزهة في الموصل.

(14)أكلات موصلية.

(15)حلوى وجرزات (مكسرات) يبيعها الباعة المتجولون عند خروج سكان الموصل الى النزهة.

(16)قشر الجوز تستخدمه النساء في الموصل بدلاً من أحمر الشفاه.

(17)حمص منقوع ومسخن على النار وهو نوع من الجرزات التي يحبها أهل الموصل .

(18)حكم الموصل بعد الدولة الأتابكية وكان ظالماً جائراً وقد توفي سنة 657هـ.

(19)هولاكو : قائد جنكيز خان فتح بغداد عام 656هـ واعمل في أهلها السيف وخرب العراق ونهب أمواله.

(20)مغني معاصر ولد في الموصل عن والد شرطي من أهل العمارة واكتسب شهرة كبيرة منذ عام 1985.

(21)مغني تعلم الغناء في الموصل وأصبح مغنياً للخليفة هارون الرشيد.

(22)ولد إبراهيم الموصلي الا انه تفوق عليه في الغناء والعلم.

(23)خليفة اشتهر عصره بأنه عصر ذهبي كان يغزو سنة ويحج أخرى ونكب البرامكة لاتهم أرادوا الاستيلاء على الحكم والقضاء على الدولة العباسية.

 

 

مركز دراسات الموصل