الصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

 

 

عمـر الطالـب خذلتـه أم النيل

 

جثمـان تلفـه الوحـدة يغـادر الدنيـا

 

بقلم فارس سعد الدين السردار

farisalsardar@yahoo.com

 

 

معه رحلت ذكرى شط الحصى، ومشهد (مريدة) الراكضة هناك في حاوي الكنيسة وسط ربيع الموصل، وهي تراقص الريح جذلى بحيويتها، وفزت غزالته التي هربت منه، يوما ما موغلا في الماضي خارج الطولة. وما عادت قنطرة الجان لتخيفه مرة أخري، وذهبت كل تخطيطاته التي كان يخططها من اجل أن يحظي بمشاهدة فلم سينمائي أخر في صالات عرض المدينة على مدار الأسبوع، والكتب والمجلات والبحوث والرسائل والأنين الموؤد لذكري الأب الذي لازمه طوال حياته، وزرع في أعماقه أسئلة ظلت عصية على الإجابة حتى غادرنا، والعصفور الذي خبأه ذات يوم في فراشه، وهو يحاوره مسكون بحمي المرض، حتى نفق دون أن يدري.
ومشهد السنونوات التي اتخذت لها أعشاشا في جدار (الحوش). ولم ترقص له أيما أنثي، أو تلطم أو تنزف لها قدم من اثر اللعب الزجاجية المتكسرة في الحوش، اللعب التي كان يلقيها من الممر المحاذي لغرفته وهو يتأمل مشهد لطم نسوة المحلة والأقارب وهن يندبن والده الذي شهدت جنازته مدينة الموصل كلها، بينما خرجت جنازته كغريب ليس له امتداد عائلي بعده.
بـ(بيغور)، كما كنته عمته، وحيدا مر في الشوارع التي ألفها، ويبدو أنها لم تألفه، لأنها لم تذرف له دمعة. شقت الجنازة طريقها وسط شوارع مدماة، الا من صحبة قليلة أحاطت بها ضوضاء سيارات الشرطة المستنفرة في المدينة خشية انفجار عبوة او ارتطام سيارة مفخخة. وكم ركنت على جانب الطريق لأنها صادفت رتلا للقوات الأمريكية المحتلة. (ولم يكونوا هذه المرة كجنود الحلفاء من هنود و سيلانيين و بولنديين يجتاحون شوارع الموصل سود وسمر وبيض عيون سود واسعة وزرق. لحي مشمعة في أكياس من قماش شفاف ووجوه محلوقة خالية من الشعر.
عمائم عسكرية محكمة فوق الشعور السوداء، وخوذ مفلطحة فوق شعور ذهبية قامات طويلة ومربوعة وقصيرة وسيارات (جيب) عسكرية وناقلات جنود تمر في شوارع مدينة الموصل القليلة لا تخالطها الا سيارات مدنية ملونة قليلة.

الحرب العالمية الثانية على أشدها بين الحلفاء ودول المحور. والعراق نقطة مرور الأسلحة من الحلفاء إلى روسيا) من مذكرات الراحل عمر الطالب وانفرط عقد لقاء السبت الذي كان يتمنى لو ان الأسبوع كله سبت. كانت الساعة العاشرة من صباح السبت ساعة مميزة، غالبا ما كان يفتح الباب لنا بقامته الفارعة وهو يرتدي الدشداشة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة تنم عن فرح، وكان جنيد الفخري دائما هو الذي يصل أولا، ليفرش بين يديه أشياءه الأثيرة من أخر الإصدارات والأخبار والنميمة التي امتلأت بها جعبته على مدى الأسبوع، وغالبا ما نلتقي انا والدكتور جزيل الجومرد في مدخل الشارع المفضي إلى داره، ثم يأتي الكاتب يحيي صديق يحيي بعد ان يرتب أشياءه في جريدة (عراقيون) لينظم إلى حلقة الدرس الأسبوعي الذي كان ركناه بجدارة كل من الطالب والجومرد. وكان يحضر هذا اللقاء بشكل متفرق الأستاذ بسام الجلبي.
عندما سمع بخبر وفاة الأستاذ الدكتور عبد المنعم رشاد قال: وقد اغرورقت عيناه بالدمع سأكون أنا التالي ولن يتبقي في المدينة إلا (الأستاذ الدكتور جزيل الجومرد) أطال الله في عمره.
وعندما سمع بخبر وفاة المطربة(رجاء بلمليح) قبل أشهر حزن كثيرا وارد ان يكتب عنها مقالا وذكر إنها إحدى طالباته في المغرب اللواتي منحهن شهادة الماجستير في اللغة العربية، واثني كثيرا على صوتها وعلي خلقها.
كثيرا ما حدثنا عن المغرب، وتجربته التدريسية فيها، وذكرياته الجميلة التي كان يحن إليها ويصفها بحب، وكم أطرى طلابه هناك وكم أطرى على المسؤولين في جامعاتها وخاصة جامعة الحسن الثاني.
ولم تكن القاهرة لتنأى بعيدا عن ذاكرته، بكل ما فيها من تفاصيل، الدرس والعلاقات، والأمكنة، والطلبة العراقيين الذين زاملوه، ورموز الأدب فيها، من نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وأستاذه القط، والفتاة التي أوشك أن يرتبط بها، والحلاق الذي أرشده إلى تسريحته العجيبة التي كانت مثار تساؤلات كثيرة، حتى أن القاص ثامر معيوف اكتشف يوما ماسكة شعر دقيقة الحجم كان المغفور له قد نسيها معلقة في شعرة، فاستلها منه وقال أصبح لدينا الآن إضافة إلى (عمر أبو ريشة)، عمر أخر هو (عمر أبو طوقة). ضحك كثيرا على ملاحظته.
وكانت بغداد الخمسينات الأكثر بهاء وحراكا في ذاكرته بما حوته من فضاء حر، وآسر لفتى يتخلص لأول مرة من تحديدات مجتمع محافظ، تحسب له الخطوات بالمليم. فبغداد بالرغم من اتساعها وتنوع منافذ لهوها أعطته ما أراد منها، علما وشهادات وعلاقات ومقالب ومشاكسات وحياة، فيها أنجز دراسته للحقوق وكلية المعلمين العالية والتجارة.
وتردد على المعهد البريطاني، وعقد صداقات عميقة مع العديد من الأسماء التي لمعت فيما بعد من أدباء ومفكرين وسياسيين وشعراء، منهم أستاذه جبرا إبراهيم جبرا وشاذل طاقه وسعدي يوسف وطارق عزيز، ومحمد جميل شلش، وعبد الواحد لؤلؤة وناظم توفيق.

اما عبد الوهاب البياتي فمعرفته به تمتد إلى أيام ماضية فقد كانت تربط والد (البياتي) مصالح تجارية مع آل (الطالب) بما يتعلق بتربية الخيول وكان (عبد الوهاب) يأتي مع والده إلى الموصل ويقيم في دار الطالب وهناك تعرف عليه عمر الطالب وبعد كان فتى.
الطالب احد المؤسسين الأوائل لجامعة الموصل، لاسيما كليتي الآداب والتربية فيها. وقد ترأس قسم اللغة العربية في الكليتين، واشرف على اغلب حملة الشهادات العليا التي منحت فيهما، وقد غادر أخر محاضرة له وهو معتل يعاني من أزمة مرضية جديدة كانت هي الأخيرة، عجز بعدها المشفى عن إسعافه، وخذلته هذه المرة (أم النيل) بعدم حضورها الذي غالبا ما يكتنفه جو من الإيغال في خرافة كانت قد أوغلت تفاصيلها في أعماقه، فهي تبدو كالمنقذ له من أزماته التي تطوح به أيام إصابته بالأمراض المتكررة زمن الطفولة وتزاحمت عليه الرؤى التي كان يحسب لها حسابات شتي، لأنه وهكذا كان يصرح نادرا ما تخذله رؤاه.
رحل الطالب تاركا وراءه زوبعة من الحوارات وتبادل الاتهامات واللوم والعتب والانفعال على ما احتواه كتابه الأخير الذي صدر عن مركز دراسات الموصل بعنوان (موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين) الذي أثار حفيظة الكثيرين ممن أغفلهم كأعلام، بينما كان قبل وفاته قد ذكر أن الكتاب لم ينجز كما أراد ولقد تعرضت بعض صفحاته للحذف بسبب الجو السياسي المتلبد الذي رافق صدوره. ومما أثير حول الكتاب أن الجامعة بوصفها مؤسسة أكاديمية كان من الواجب أن لا تترك منجزا كهذا يمر دون أن تخضعه للجنة أكاديمية، تعيد النظر في منهجيته، وتدقق بعض المعلومات التي جاءت متلبكة، وان تقف أمام أصحاب المنجزات الحقيقية، لان بعض الأسماء التي وردت فيه كانت مقتضبة، لم تتجاوز السطر عن العلم.

عاش الطالب حياته بالطول والعرض وخدم المدينة دون أدنى شك، ولئن كان قد اخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.


الهوامش:
* شط الحصى: منطقة في الموصل تقع على نهر دجلة يكثر فيها الحصى ويرتادها أهالي الموصل صيفا للسباحة.
* مريدة: فرس أصيل شهد الطالب موتها في بداية حياته، وكادت مريدة أن تكون سبب في قتال عشائري بين شمر وال الطالب.
* حاوي الكنيسة: سهل منبسط غربي الموصل يحاذي نهر دجلة تكثر فيه البساتين.
* قنطرة الجان: إحدى قناطر الموصل القديمة والمتعرجة التي غلفت بحكايات عن ظهور الجان .
* بيغور: من اللهجة الموصلية وتعني جالب النحس.
* أم النيل: امرأة كانت تزور بيت آلــ (الطالب) وتحظى باحترام وتقدير النسوة وكانت تعالج عمر من أزماته المرضية.