موقع الدكتور عمر الطالب

 

دادا عمر... سيرة مشتركة

 

 

 

       

 

 

بسام إدريس الچـلبي

 

 

        أُعدّت الكلمة لتقرأ في الأمسية الاحتفالية بالأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب التي أقامها "اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين فرع نينوي" في العام 1994؛ ولم تُلق بسبب ضيق الوقت، كما نُسِّب في حينه! ولعلها تُنشر بعد هذه الأربعة عشر من الأعوام... إذا استثنينا ضيق الحيز الورقي!
على نصف عادة العرب الأقحاح الذين كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية لينشئوا فصحاء، دفعني أهلي إلى عائلة قروية. وبعد ثلاثة سنوات عدت إليهم، ليس غير فصيح فقط، وإنما غير عارف من العربية سوى الألفاظ المشتركة بينها وبين اللغة المحلية التي رضعتها من أمي البديلة.

وبدلا من العودة إلى حضن الأم الأصيلة انتزعتني منها امرأتان: جدتي وابنتها الأرملة (عمتي).

        كان علي إنجاز مهمتين شاقتين: نسيان لغة وتعلم أخرى، ومعايشة ابن عمتي الذي كان يكبرني بعشر سنوات والذي نزلت عليه ضيفاً صغيراً ثقيلاً ينازعه على ثلاثة عروش كان يتقافز عليها متنقلا دون منافس، تلك هي قلوب: جدتنا المشتركة، وخاله: عمي، وأمه: عمتي. وقد أنجزت المهمتين بشكل سليم، أعني بنسيان كل شيء عنهما سوى ما يمكن أن يستنتج.

        كان علي أن أتعلم لغة القوم: العربية، وقد علمتني إياها المرأتان الحبيبتان، لكن الجزء الأكبر من حياتي كنت أمضيه مع أبن عمتي، فكان أول معلم لي هو "عمر" وكنت في الأغلب، أول تلميذ له هو الرجل الذي تخرج به الآلاف. وبقي عمر معلمي في كل المراحل اللاحقة من أيامي وسيبقى ما شاء العمر.

        وفي سبيل تسهيل المهمة الثانية: التعايش، لابد أن أهلنا أوجدوا طريقة للتفاهم وإحلال السلام، وخاصة في ذلك العام الذي أعلن فيه العالم عن تعبه من حرب طاحنة استمرت سبعاً عجافاً فحقق السلام بقنبلتين ذريتين. وكان من بين أدوات السلام بين الطفل والصبي ما هو أقوم خلقاً من القنبلة الذرية، منها أني كنت ملزماً بعدم مخاطبته باسمه المجرد، ولكن مسبوقا بلفظة "دادا" التي كانت تستعمل في عهدنا السحيق لمناداة الأخ. فكان "دادا عمر". ولا اعرف في أية مرحلة تجرأتُ على الغاء اللقب. لكن اعرف إننا بقينا أخوين إلى يوم الناس هذا، إن بقي الناس هذه الأيام يملكون أيامهم؟!
ماذا تذكر أيها الشيب من تلك الأيام؟... في رمضان، كنت وأنا ابنُ الخمس، المفطر الشرعي الوحيد. وكان عمر (الصائم) يأتيني عند الغداء متلصلصا و (يشتري) مني بالإكراه طعامي لقاء بقايا حلوى أو قلم ملون يلفظ نبلته الأخيرة، مع بعض التحذيرات المناسبة بضرورة الكتمان. فأُصبح أنا الصائم الحقيقي، ويروح هو يمثل دورَ الهالك جوعاً، بحيث تقرر أمه، وقد تفطر قلبُها لمرأى قلبِها، أن تستصدر فتوى شرعية، حتى لو كانت من عند "ستالين"، تُبيح إفطاره، فيصرخ: كلا يا أمي، فانا رجل وسأصوم. وعلى مائدة الإفطار نجلس متقابلين جائعين متبادلين نظرات خاصة. وكان إذ ينوي عمر صيام الغد، يهبط قلبي وتصرخ معدتي، لان معنى ذلك انه نوى على افتراس طعام غدي.
        نجحت مناورات أمي الحربية وجهودها الدبلوماسية في استعادة ابنها المنتزع. وأني أحيل من اغتصب منه ابناء مما خف حمله وسهل لطشه على شكل قضايا أو حقوق أو مبادئ أو قيم أحيلهم على قبور أسلافنا ليتعلموا منهم إصرارهم، أو ليدفنوا رؤوسهم عند أقدامهم.

        رحلت إذن إلى أمي، وصار يفصلني عن "دادا عمر" جدار بعبّارة كنت اجتازها كل ساعة مدفوعاً بالحنين (لثاني منزل) و (للمعلم الاول).
        لم تكن اوقاتنا لعبا، فقد كان الفتى عمر يقرأ. كان يفتح مجلدات كنتُ أتخيلها أثقل مني. ولكي أبعد السأم عن نفسي لانشغاله عني بالقراءة، كنت اختار المجلدات المصورة؛ بالاخص مجلات الحربين الأولى والثانية. ولا ادري أكنت أعبر عن رغبتي بالسلام بتمزيق مجلات الحروب.. الأمر الذي لن نفعله مع الحرب الثالثة التي سيكون من بين فضائلها ان لن يكون لها مجلات!
        الموصل التي بقيت تسبت لقرون في رقعتها الجغرافية، بدأت تتمطى، وكنا من بين مَن لفظه قلبُ الموصل القديمة. صرت بعيدا عن "دادا عمر" لكن الدراجة ثلاثية العجلات ثم الثنائية كانتا تقصران المسافة. كنت وأخواي نمضي العطل وليالي الخميس في بيت عمنا وعمتنا. وفي الليالي كان عمر يختار لنا من كتب الأدب الحديث ويقرأ لنا. اتذكر انه قرأ علينا "اشعب أمير الطفيليين" لتوفيق الحكيم في خميسين.
وكان عمر يصحبنا، أخويّ وأنا إلى السينما، وعلمنا حبها، ذلك الذي كنا، علي أية حال، سنتعلمه بحكم التفرد. لكنه علمنا شيئاً أهم من الحب: "علم السينما" بما يتضمنه: الذوق الفني والنقد والموازنة. دور كل العاملين في الفلم. مفردات العملية السينمائية. والنظر إلى السينما كونها رافدا ثقافيا. وكان أخواي، اذا ما آثرني عمر (بفلم)، دونهما، يوقعان عليّ عقوبة ممثلة بلقب مصنّع من عنوان الفلم الذي شاهدته وحدي مع عمر. ولعل اقسى تلك الالقاب ذلك المنتزع من فلم (البغل الناطق).

        وإذْ استرجع اليوم تلك الذكريات اشعر بالزهو والألم في آن، اذْ أقارن بين ذلك العبث الطفولي وبين واقع (البغال غير الناطقة) اليوم بحسبانه موقفا رجاليا غير رجولي.
        كبرنا.. صار طالب كلية ببغداد وصرت تلميذ ابتدائية. في العطلات كنت أمضي أيامي في بيت عمي وعمتي بجانب "دادا عمر". ياتي خريف عام
1952 ويقدم عمر من بغداد محمّلا باخبار المظاهرات. وأقعد امامه مبهورا بأقاصيص بطولاته يتيه بها امام صبايا الأسرة وشاباتها. بعد سنين عرفت لماذا كانت تلك البطولات تبهرني.. لقد كانت خيالية، وعمر أديب وقاص وعليه أن يُدرب مُخيّلتَهُ. وبالفعل، فقد كتب في تلك المرحلة مقالات "ممنوعة" وقصص "خطرة". وكانت الرقابة الداخلية المتمثلة بأمه وخاله تحجر عليها فتقوم الخادمة الأمينة بتخبئتها تحت الحطب في "سغداب الشعلي". ويبدو ان روايته الاولى "ولاء" استعصت على عملية الاختباء فقررت الأم بحس رقابي ثوري أن تجعل الرواية ثانية اثنين إذ هما في التنور.

        مبكراً بدأ معي خطة للتثقيف المنهجي. في آخر مراحل الابتدائية اكتشف فيّ ميلا للقراءة، فراح يوجهني في ماذا أقرأ وماذا أوجل. يعيرني من مكتبته.
في العام الدراسي
54- 1955 عُيّن معلمي مدرسا للغة العربية في متوسطة المثنى. في السنة ذاتها كنت في الصف الاول من المدرسة عينها وصار الأستاذ عمر مُدرسي. لقد حاول في تلك المرحلة المبكرة جدا بالنسبة لنا طلبةً صغاراً وبالنسبة له مدرسا حديث التجربة، أن يُدخل أسلوبا جديدا في التعليم قائما على الحوار والنقد، مطبقا وبشكل مبسط ملائم لعقولنا ومعارفنا أسلوب الحوار السقرافلاطوني ومبادئ الشك الديكارتي.

        لم يكن مدرسنا بل كان محاورنا في مواد الاستظهار (أو المحفوظات) والمطالعة والإنشاء. نبذ تلك الطريقة القديمة المعتمدة على حفظ قطعة الشعر أو النثر ومعاني الكلمات. كان يقودنا إلى النظر في القطعة الأدبية كونها كلا متكاملا ويساعدنا في اكتشاف عناصر الجمال فيها باذلا أولى محاولات النقد. وكان مغرما بشكل خاص بدفعنا لاكتشاف عناصر التناقض الداخلي في التركيبة الفكرية للقطعة الأدبية.
        كان درس الانشاء بمثابة (دار نشر) لنتاجاتنا. نقرأ ما كتبنا، ويشترك هو معنا في مناقشتها. لقنني في احد "الانشاءات" درسا مهما. كان قد طلب منا موضوعا في موقف إنساني، فكتبت عن مسكين صادفته -في خيالي طبعا- فأعطيته ما أملك وما لا أملك. وأوشكت أن أتنازل له عن بيت الذين خلفوني بما فيه. في حصة الانشاء/النشر طلب مني أن أقرأ موضوعي، ثم طلب إلى آخر أن يقرأ موضوعه. كان هو الآخر قد التقى مسكينا -ربما في الحقيقة- وقدم له كل ما يملك: قدح شاي وقطعة خبز. قال أستاذنا إنه أعطاني درجة أعلى لأن لغتي أكثر سلامة، ولأن أسلوبي أجود. وأضاف: لكن: فكرة الزميل أروع لأنها تميزت بالبساطة وبالصدق. فكان ذلك أحد الدروس المهمة التي عرفت منها أن اللغة والأسلوب ليسا كل شيء وأن من الضرورة الانتباه إلى سلامة الفكر وعدم التهويل.

        واليوم بعد أربعين سنة، ونحن في عالم مسخ الحقائق والعنتريات، أجد أننا جميعا بحاجة لمدرس إنشاء يعلمنا المبادئ نفسها.
لم تكن علاقاتنا كلها ربيعا، ونزهة على ضفاف بحيرة اللبن والعسل، فقد تتعرض العلاقات إلى لطمة. في يوم لذنب أو لغير ذنب، إقترب مني أستاذي عمر وسدد إلى وجهي لطمة مريرة. قد يكون إستفاد من موقف تراثي قديم للشاعر عنترة، فيصبح قانون عمر، بعد التعديل:

وألطم الأقربَ لطمةً... يطير لها قلبُ الأبعد شعاعا

ولا يمكن بالطبع إغفال تاثير اللطمة على الوضع العام في الصف في قابل الأيام. هل كنت مذنبا.. هل كنت مظلوما؟ في الأغلب كنت الأخير، فكل المعاقبين مظلومون، في الأقل هذا ما تقوله أمثال الشعوب المقهورة. على كل، ما أن وصلت البيت بعد اللطمة المفاجئة حتى كان أستاذي يدخل الدار خلفي فيناديني ويلاطفني. لا أدري أرق قلبه لتلميذه الطفل القديم أم أن قلبه دق حذرا من خاله: أبي.
كان في نقده لنتاجاتي أقرب إلى القسوة، لكن ليست المحبطة القاصمة. كان يحدثني عن علاقات الأدب والقربى بين (فلوبير) و (موباسان) وعن صرامة نقد "فلوبير" لتلميذه "موباسان". كنت اسال نفسي: أيريد أن يخفف من وقع قسوته عليّ؟ كنت اتخيله (فلوبير) وانا قريبه وتلميذه البار المتواضع جدا (موباسان) فقط! ومرت العقود وبددت الزوابع أحلامي الخرافية الذهبية. واذا كان (فلوبير) جديد ولدته الموصل، فموباسان (تعيشون انتم).
        لم يكن لاحد مثل تاثير عمر الفكري عليّ. لقد حدد الخطوط العامة لمواقفي النظرية والمبدئية والفكرية. في الثالثة عشرة حدد موقفي من الدين مرة وإلى الآن، رغم انه هو تعرض لنكوصات. اعترف إنني إلى اليوم أعاني من وطئة سطوته الفكرية. لقد حاولت مرارا ان آكل أبي الروحي، على وفق نظرية (فرويد) في واقعة (وليمة جسد الأب)، ولكن في كل مرة كان بروتين لحمه يعرف كيف يصل خلايا دماغي. أكتشف، حتى اليوم، في مواقفي ما ينشز عنها، وإذ أراجع أصولها أعرف أنها من أيام التأسيس العُمَري العمْري. حتى انطباعاتي عن الممثلين القدامي متأثرة بايحاءاته وايماءاته. واحدة لم أشاركه الإعجاب بها: "ليلي مراد" ربما تحت تاثير الشعور بإثمية مس المحارم. فتركت له ليلي مراد معشوقته الأبدية.
        آن أن اتركه مع ليلاه، وان لم تكن القصة قد أنتهت. وأنى لها أن تنتهي وأنا لم أنه مرحلة تلمذتي. وإذا استطعت أن أوضح بأني كنت أول تلامذة "عمر" آمل أن استطيع الإقناع بانه سيكون آخر معلميّ كما كان أول معلم لي. يحسن أن نفترق طوعا، وإلا فُرقنا عنوة بسيف الوقت.

        أيها السادة لأترككم أنتم ايضا وليلاتكم ولياليكم في زمن صارت كل ساعاته ليلا محاصَرا ومحاصِرا. آملا لكم صبحا قريبا.

 

نقلا عن

جريدة (الزمان) الدولية - العدد 4018 - التاريخ 10/10/2011