الفصل الخامس : قصيدة وا حرّ قلباه تحليل بنيوي سيميائي

1- البحر

تتحدد الهوية العروضية للقصيدة في بحر البسيط ووزنه هو:

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن // مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن.

إن هذا الانتماء العروضي محدداً في البسيط يفرض علينا التوقف عند بعض الإشكاليات النظرية والأحكام النقدية المرتبطة به.

-نسبة شيوعه في الشعر العربي وفي الشعر الغربي:

1- نسبة شيوعه في الشعر العربي: يحتل البسيط المرتبة الثانية بعد الطويل، ويشاركه في هذه المرتبة الكامل، وذلك بناءاً على عملية إحصائية قام بها الدكتور إبراهيم أنيس لتحديد نسبة مختلف الأوزان الشعرية في عصور مختلفة، فتوصل إلى أن:

"البحر الطويل قد نظم منه ما يقرب من ثلث الشعر العربي، وأنه الوزن الذي كان القدماء يؤثرونه على غيره ويتخذونه ميزاناً لأشعارهم، ولا سيما في الأغراض الجدية الجليلة الشأن []. ثم نرى كلاً من الكامل والبسيط يحتل المرتبة الثانية في نسبة الشيوع، وربما جاء بعدهما كل من الوافر والخفيف، وتلك هي البحور الخمسة التي ظلت في كل العصور موفورة الحظ يطرقها كل الشعراء، ويكثرون النظم منها، وتألفها آذان الناس في بيئة اللغة العربية"

وسيحتفظ البسيط بنفس المرتبة تقريباً في الشعر العربي الحديث من خلال أعلامه الذين يصنفون في المدرسة الكلاسيكية كالبارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي

ب- نسبة شيوع البسيط في شعر المتنبي:

يحتل البسيط المرتبة الثالثة في ديوان المتنبي بعد الطويل والكامل، وهذه نسب البحور في شعره "الطويل 28 بالمئة، الكامل 19 بالمئة، البسيط 16 بالمئة، الوافر 14 بالمئة، الخفيف 9 بالمائة، المنسرح 7 بالمائة، المتقارب 16 بالمائة، الرجز 2 بالمائة، السريع 1 بالمائة"

انطلاقاً من نسبة شيوع البسيط في الشعر العربي وفي شعر المتنبي، نستنتج ما يلي:

أولاً    : إن نسبة شيوع البسيط في الشعر العربي ذات دلالة مهمة، فهذا يعني أنه كشكل إيقاعي استطاع احتواء تجارب شعرية مختلفة، على امتداد عصور متباعدة:

       (العصر الجاهلي، العصر العباسي، العصر الحديث).

ثانياً   : هناك تطابق بين نسبة شيوع البسيط في الشعر العربي وبين نسبة شيوعه في شعر المتنبي، وهذا يؤكد أن شعره لا يخرق قاعدة شيوع أوزان معينة في الشعر العربي، بل يؤكدها (الطويل- الكامل- البسيط) شأنه في ذلك شأن معظم الشعراء الذين عاشوا في نفس عصره فقد "ظل شعراؤه يحتفظون بنسب القدماء في أوزان الشعر وبحوره، ولكن عنايتهم بالمجزوءات قد زاد زيادة ملحوظة".

إن الملاحظة التي سيتم التركيز عليها هي أن انتماء القصيدة إلى بحر كثير الشيوع في الشعر العربي، وفي شعر المتنبي، ستترتب عليه مجموعة من الأحكام النقدية المعيارية، ومن بينها علاقة البحر بالغرض الشعري.

علاقة البحر بالغرض الشعري:

إن العلاقة بين البحر كشكل إيقاعي، والغرض الشعري كعنصر دلالي، تفرض نفسها عند التعامل مع أي نص شعري قديم، نظراً لعدة عوامل من أهمها بعض الأحكام النقدية الجاهزة والشائعة حول العلاقة بين الوزن والغرض الشعريين. ولابد في البداية من التوقف عند بعض المعطيات، النظرية التي أفرزها النقاش حول إشكالية موسيقى الشعر ومعناه في النقد العربي القديم والحديث، قبل الانتقال إلى تحليل النص على مستوى الإيقاع.

يمكن القول باختصار إن العلاقة بين موسيقى الشعر ومعناه إشكالية لم تحظ باهتمام النقاد والعروضيين العرب، بخلاف قضايا نقدية أخرى معروفة (القدم والحداثة، اللفظ والمعنى، الطبع والصنعة، الإعجاز الخ) فالعروضيون كانوا "علماء لغة همهم البحث في الأشكال اللغوية، في المعاني التي تؤديها أو علاقتها بتلك المعاني". وظلت مساهمتهم غائبة بصفة عامة، لا تلامس إشكالية موسيقى الشعر ومعناه، بل تنغلق في لغته.

إذا انتقلنا إلى النقاد القدماء نصادف مساهمتين متفاوتتي الأهمية النظرية: الأولى لأبي هلال العسكري، والثانية لحازم القرطاجني.

يقول أبو هلال العسكري: "وإذا أردت أن تعمل شعراً فأحضر المعاني التي تريد ينظمها فكرك وأخطرها على قلبك، واطلب لها وزناً يتأتى فيه إيرادها وقافية يحتملها.. فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية ولا تتمكن منه في أخرى.. أو تكون في هذه أقرب طريقاً وأيسر كلفة منه في تلك.. ولأن تعلو الكلام فتأخذه من فوق فيجيء سلساً سهلاً ذا طلاوة ورونق خير من أن يعلوك فيجيء، قفراً فجاً ومنتجعاً جلفاً.."

يربط أبو هلال العسكري في الفقرة السابقة بين أوزان شعرية معينة ومعانٍ معينة، إلا أنه لم يطرح إشكالية موسيقى الشعر ومعناه بكيفية دقيقة ومفصلة، ومن هنا تبقى مساهمته محدودة الأهمية.

إن حازم القرطاجني هو الناقد العربي الوحيد الذي أثار إشكالية موسيقى الشعر ومعناه بعمق بالنسبة للقدماء، فقد ربط بشكل واضح بين أوزان معينة، وأغراض ومعان معينة:

"ولما كانت أغراض الشعر ستة وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، [ومنها ما يقصد به الهزل والرشاقة]، ومنها ما يقصد به البهاء والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاك تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضع قصداً هزلياً واستخفافياً وقصد تحقير شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد، وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزناً يليق به ولا تتعداه فيه إلى غيره".

إذا كان حازم في الفقرة السابقة يربط بين أغراض شعرية وأوزان شعرية بكيفية عامة، فإنه في الفقرة التي سنشير إليها، يخصص معاني معينة لأوزان معينة: "فالعروض الطويل تجد فيه أبداً بهاءاً وقوة، وتجد للبسيط بساطة وطلاوة، وتجد للكامل جزالة وحسن إطراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب بساطة وسهولة، وللمديد رقة وليناً مع رشاقة، وللرمل ليناً وسهولة . ولما في المديد والرمل من اللين كان أليق بالرثاء وما جرى مجراه بغير ذلك من أغراض الشعر، وقد أشرنا إلى حال ما بقي من الأوزان".

يربط حازم القرطاجني بين موسيقى الشعر (البحر) ومعناه (الغرض)، فيطلق مجموعة من الأوصاف المتعددة على بحور مختلفة.

وفي العصر الحديث اهتم النقاد العرب بإشكالية موسيقى الشعر ومعناه، فظهرت عدة دراسات تتمحور حولها، وسنركز على دراسة واحدة للدكتور عبد الله الطيب متمثلة في كتابه "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" نظراً لعدة اعتبارات منهجية من أهمها:

أولاً    : أنه خصص حيزاً مهماً لمناقشة الإشكالية.

ثانياً   : أنه أصدر أحكاماً نقدية معيارية حول علاقة البحور الشعرية بمعاني وأغراض معينة، ومن بينها البسيط الذي تنتمي إليه القصيدة عروضياً.

يعلن عبد الله الطيب في بداية إشارته لإشكالية موسيقى الشعر ومعناه، أن الفرضية  التي يسعى لتوضيحها تتحدد في التناسب بين أوزان الشعر ومعانيه: "ومرادي أن أحاول بقدر المستطاع تبيين أنواع الشعر التي تناسب البحور المختلفة. وقد يقول قائل ما معنى قولك هذا؟ أتعني أن أغراض الشعر المختلفة تتطلب بحوراً بأعينها، وتنفر عن بحور بأعينها؟ هذا عين الباطل! ألسنا نجد مراثي في الطويل، وأُخر في البسيط وأخر في المنسرح، وهلم جرا.

ألا يدل هذا على أن أي بحر من البحور يصلح أن يُنظم فيه لأي غرض من الأغراض الشعرية؟

وجوابي عن هذا السؤال: بلى، كما يبدو ويظهر، ولكن كلا وألف كلا، لو تأمل الناقد ودقق وتعمق. فاختلاف أوزان البحور نفسه، معناه أن أغراضاً مختلفة دعتْ إلى ذلك، وإلا فقد كان أغنى بحر واحد، ووزن واحد".

لقد حاول عبد الله الطيب البرهنة على صحة فرضيته السابقة، فاستقرأ نماذج شعرية عربية تشمل كل البحور تقريباً، ومن مختلف العصور التاريخية ومن بينها العصر الحديث، إلا أنه ارتكب أخطاء عديدة، تنبه إليها بعض النقاد ومن بينهم محمد شكري عياد الذي انتقد ربط عبد الله الطيب بين أوزانٍ معينة ومعانٍ معينة، لأنه "لا يستند في تمييزه بين الخصائص المعنوية للأوزان العربية إلى أي أساس موضوعي. ولا شك أنه تتبع في هذا الكتاب نماذج كثيرة من الشعر العربي قديمه وحديثه، ، ولكنه لم يحاول أن يخضع هذه النماذج لأي نوع من التحليل، بل اكتفى بإثبات انطباعه الخاص عن كل وزن، وتأييد هذا الانطباع ببعض الشواهد".

إن هذا الانتماء وجيه وموضوعي، لأن عبد الله الطيب ينطلق من أحكام جاهزة حول مختلف البحور الشعرية، وبعد ذلك يلجأ إلى المتن الشعري، لاختيار نماذج شعرية منتقاة لتأكيد شرعية وصحة تصوره النظري المسبق، وكان عليه أن يفعل العكس، أي أن ينطلق من الممارسة الشعرية لصياغة تصوره النظري ولإصدار أحكام نقدية.

- يقع عبد الله الطيب في تناقض منهجي- دون أن يعي ذلك- فهو يقر أحياناً بصلاحية البحر الواحد لمعانٍ وأغراضٍ مختلفة ، ألا يعني ذلك ضمنياً أن البحر شكل إيقاعي يكتسب أهميته انطلاقاً من قدرة الشاعر الخاصة على توظيفه للتعبير عن تجربته الشعرية والشعورية، وهذه هي الأطروحة التي يدافع عنها البحث ويتبناها.

- إن أحكام عبد الله الطيب حول التناسب بين أوزان الشعر ومعانيه لا تنطلق من استقراء شامل وكلي للشعر العربي، بل تستند إلى استقراء ناقص وجزئي يشمل قصائد منتقاة تبعاً لحس ذوقي معين.

لا يكتفي في محمد شكري عياد بالانتقاد العام الموجه إلى التصور النظري لعبد الله الطيب، بل ينتقد بعض أحكامه المرتبطة ببحور معينة، كنعته المنسرح بالتخنث والتكسر:

"فإننا لا نملك أن نصور المنسرح بصورة الراقص المتكسر أو المغني المخنث وهذا التصوير والتقريب لا يناقض ما قدمناه من أن هذه الأبحر جميعاً تصلح للغناء، ومع التكسر والرقص والتثني نجد في المنسرح لوناً جنسياً يشبه لون المتقارب المجزوء..".

ويرى عياد أن عبد الله الطيب ينفرد في نعته المنسرح بالتخنث والتكسر والطابع الجنسي، رغم إقرار بعض النقاد أنه يتصف باضطراب موسيقي. "ذلك أننا لا نجد أحداً وصفه بالتكسر والتخنث غير صاحب "المرشد" والشواهد التي جاء بها في ذلك غير مقنعة، لأن معظمها في الرثاء". ويورد عياد دليلاً من الشعر العربي يثبت خطأ رأي عبد الله الطيب في المنسرح، فالمتنبي نظم فيه سبعة في المائة من شعره رغم خلو شعره من صفتي التخنث والتكسر: "على أن المتنبي. وما أبعده عن محل هذه الصفات- قد نظم في هذا البحر سبعة في المائة من شعره. مقدراً بعدد الأبيات حسب إحصاء الدكتور إبراهيم أنيس، وهي نسبة عالية جداً بالقياس إلى غيره من الشعراء، وإلى ما نظم هو نفسه في الأوزان الشديدة الشيوع فهو ربع ما نظمه في الطويل ونصف ما نظمه في الكامل".

لا داعي للاستمرار في مناقشة الأخطاء التي ارتكبها عبد الله الطيب في كتابه عند إثارته لإشكالية موسيقى الشعر ومعناه، ونكتفي بالتأكيد على الملاحظات الأساسية التالية:

أولاً     : إن البحر شكل إيقاعي محايد، قابل لاحتواء تجارب شعرية وشعورية مختلفة، ولأنه كذلك فهو لا يملك امتيازاً مسبقاً، فالشاعر هو الذي يمنحه إياه، انطلاقاً من قيمة إبداعه الشعري، وقدرته على توظيف البحر توظيفاً موفقاً وإيجابياً للتعبير عن أحاسيسه وأفكاره. تأسيساً على الفكرة السابقة يجب تجاوز النظرة التقليدية التي تربط بين أوزان معينة ومعان معينة، مع الإبقاء على أحد عناصرها المتمثل في التأكيد على الأهمية الكمية للبحر والتي تلائم أغراضاً معينة، فالبحور الطويلة مثلاً تصلح للمدح والفخر في حين تناسب القصيرة والمجزوءة الغناء والغزل.

ثانياً    : إن المقولة المتمثلة في احتكار أوزان معينة لأغلب الشعر العربي (الطويل- البسيط- الكامل- الوافر) واقع شعري لا مناص من قبولـه. لكننا لا ينبغي أن ننطلق منه لإصدار أحكام معينة، فيصبح موجهاً لتصورنا النظري حول إشكالية موسيقى الشعر ومعناه، والمثير للانتباه هو أن أهمية البحر أو الوزن الشعري ينسجم مع نسبة شيوعه في الشعر العربي، لذلك فإن البحر الطويل الذي نظم فيه ثلث الشعر العربي تقريباً يحظى بأهمية خاصة، وخصوصاً من طرف النقاد الذين يتبنون الربط بين الأوزان والمعاني، وكلما قلت نسبة شيوع البحر كلما قلت أهميته. والأطروحة التي يقترحها البحث هي كالتالي: يجب أن نتحرر من كل الأحكام المعيارية والمستهلكة حول المفاضلة بين البحور تبعاً لنسبة شيوعها، وتبعاً للتناسب بينها وبين معانٍ وأغراضٍ معينة، وعوض الاهتمام بالبحر يجب الاهتمام بالنص الشعري المفرد والتساؤل عن مدى نجاح الشاعر أو فشله في إخضاع البحر كشكل إيقاعي لتجربته الشعرية والشعورية، فليست كل القصائد التي نظمت في البحور الطويلة متميزة، وليست كل القصائد التي نظمت في البحور القصيرة محدودة القيمة..

إذا كان عبد الله الطيب يتبنى الربط بين موسيقى الشعر ومعناه، فإن الدكتور إبراهيم أنيس يؤكد أن: "استقراء القصائد القديمة وموضوعاتها لا يكاد يشعرنا بمثل هذا التغير، أو الربط بين موضوع الشعر ووزنه: فهم كانوا يمدحون ويفاخرون أو يتغزلون في كل بحور الشعر التي شاعت عندهم. ويكفي أن نذكر المعلقات التي قيلت كلها في موضوع واحد تقريباً، ونذكر أنها نظمت من الطويل والبسيط والخفيف والوافر والكامل، لنعرف أن القدماء لم يتخيروا وزناً خاصاً لموضوع خاص، بل حتى ما أسماه صاحب المفضليات بالمراثي جاءت من الكامل والطويل والبسيط والسريع والخفيف".

وبدل الربط بين أوزان الشعر ومعانيه، يتبنى إبراهيم أنيس الربط بين البحور والانفعالات النفسية، مؤكداً أن هذه الأخيرة هي التي تتحكم في طول أو قصر البحور:

"وفي الحق أن النظم حين يتم في ساعة الانفعال النفساني يميل عادة إلى تحيِّر البحور القصيرة، وإلى التقليل من الأبيات" ويوضح هذه الفكرة بواسطة أمثلة متعددة، فيرى أن: "المدح ليس من الموضوعات التي تنفعل لها النفوس، وتضطرب لها القلوب، وأجدر به أن يكون في قصائد طويلة وبحور كثيرة المقاطع، كالطويل والبسيط والكامل، ومثل هذا يمكن أن يقال في الوصف بوجه عام"

ويقول عن الغزل: "أما الغزل الثائر العنيف الذي قد يشتمل على وله ولوعة، فأحرى به أن ينظم في بحور قصيرة أو متوسطة وألا تطول قصائده، ومثل هذا مثل كل شعر ينظم في مجالس العبث واللهو ووصف معاقرة الخمر مما كان يُتغنّى به أيام العباسيين، وما كان يسمى بشعر المجون".

إن الفكرة الأساسية التي يسعى د. إبراهيم أنيس إلى تأكيدها تتحدد في الربط بين الانفعالات النفسية وطبيعة البحر الكمية على المستوى العروضي (القصر- الطول). إن الانتقاد الذي يمكن أن يوجه إلى هذه الرؤية، هو أننا لا نتوفر على معطيات تاريخية وتوثيقية دقيقة حول طقوس نظم الشعر العربي القديم وحتى الحديث، فنحن نجهل زمن النظم بمختلف مراحله المعقدة، ولا نستطيع الجزم بأنه تزامن وتلا انفعالات نفسية معينة لشعراء مختلفين، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور الفرضية التالية: إن الكثير من القصائد الطويلة والتي تعكس انفعالاً سلبياً نظمت متزامنة مع هذا الأخير، ولم ينتظر مبدعوها زواله ليتسنى لهم النظم في بحور طويلة، لا لشيء سوى لأن الشعر-حسب رأي إبراهيم أنيس- "إذا قيل وقت المصيبة والهلع تأثر بالانفعال النفسي، وتطلب بحراً قصيراً يتلاءم وسرعة التنفس وازدياد النبضات القلبية".

ومع ذلك، فإن رؤية إبراهيم أنيس تتضمن جانباً يؤكده استقراء الشعر العربي، وهو أن أغراضاً شعرية معينة نظمت في بحور معينة تبعاً لطولها أو قصرها.

علاقة الشاعر بالممدوح:

إن العلاقة بين الإنسان/ الشاعر، والإنسان/ الممدوح، تنقسم إلى علاقة إيجابية، وأخرى سلبية:

الأولى        : تعكسها علاقة الحب الصادق من طرف الشاعر بالإضافة إلى المدح.

الثانية         : تعكسها بنية العتاب الذي يصل أحياناً إلى درجة التعريض والتعنيف نظراً لتفريط الممدوح في علاقته الإيجابية بالشاعر.

إن القراءة المتأنية للقصيدة تؤكد أن الصورة السلبية لسيف الدولة طغت على صورته الإيجابية، خصوصاً إذا أدخلنا في عين الاعتبار عاملاً مهماً وهو أن المدح في القصيدة ذو قيمة دلالية وفنية باهتة بالمقارنة مع بنيتي الفخر والعتاب، ولو كان المتنبي مخيراً لألغاه، ولكن الطقوس الرسمية والسلطوية تفرض عليه التطرق إلى المدح. وهكذا تصبح بنية  المدح باردة الانفعال، محدودة الصدق لأن الشاعر يعيد معاني متكررة، لاجدة فيها سواء على المستوى الشكلي أو المضموني. ومما يؤكد هذه الفكرة أن القصيدة تبتدئ بالعتاب وتنتهي به ولا تبتدئ بالمدح أو النسيب.

علاقة المتنبي بباقي الأشخاص:

علاقة المتنبي بباقي الأشخاص، التي تشكل عالم الإنسان المطلق، علاقة يمكن تصنيفها إلى قسمين:

-علاقة سلبية    : تتحدد في أنه يتخذ موقفاً من بعض الأشخاص نظراً لنوعية سلوكهم السلبي نحوه، الشيء الذي يدفع الشاعر للانتقاص منهم وذمهم.

-علاقة محايدة   : إن بعض الوحدات المعجمية التي تحيل على الإنسان المطلق، تحتمها ضرورة فنية صرفة تتمثل في توصيل معنى محايد، أي أن علاقة الشاعر ببعض مستويات الإنسان تصبح ملغية لأنه يوظفها لإيصال معنى محدد. (الإنسان- صديق- الناس- أخو الدنيا).

قبل تحليل العلاقة السلبية بين الشاعر وبعض الأشخاص الذين يشكلون عالم الإنسان المحدد، نقوم في البداية بالعملية التصنيفية التالية:

العلاقة

 

الدلالة

البيت

مستوى الإنسان

سلبية

النفاق

تدعي حب سيف الدولة الأمم

الأمم

سلبية

دونية المخاطبين

-سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا

بأنني خير من تسعى به قدم

الجمع- المجلس

سلبية

تفوقه على الشعراء

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر القوم جراها ويختصم

الخلق

سلبية

صفة الحسد

إن كان سركم ما قال حاسدنا

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

حاسدنا:

سلبية

الرحيل/ النبوة

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا

أن لا تفارقهم فالراحلون هم

قوم

سلبية

 

بأي لغط تقول الشعر زعنفة

تجوز عندك لا عرب ولا عجم

الزعنفة

-إن العلاقة بين المتنبي وباقي مستويات الإنسان علاقة سلبية، والملاحظة الأساسية أن سبب توترها يرجع إلى عنصر الشاعرية، فالمتنبي كشاعر بعد التحاقه ببلاط سيف الدولة خطف الأضواء وأصبح الشاعر الرسمي له، ومن هنا بدأ التآمر بين خصومه للتأثير على علاقته بالممدوح، ويشكل عنصر الشاعرية إوالية مركزية لتأدية دلالتين مختلفتين: تأكيد تفوق الشاعر، والحط من قيمة باقي الشعراء.

ولعل أوضح علاقة سلبية بين المتنبي وخصومه يعكسها البيت التالي:

تجوز عندك لا عرب ولا عجم

 

 

بأي لفظ تقول الشعر زعنفة

فالشاعر ينعت خصومه الشعراء بأحط وأخس الصفات، ولا شك أن بعضهم يحضر مجلس سيف الدولة وينصت للقصيدة. (أبو فراس الحمداني مثلاً).

-إن الاستنتاج الذي نصل إليه يتمثل في سلبية العلاقة القائمة بين الشاعر وبين غيره من الشعراء الذين تشير إليهم القصيدة بألفاظ مختلفة (زعنفة- القوم.. ..).

وتكمن خلف الصراع الخفي للحصول على مكانة معينة عند الممدوح، عوامل اقتصادية واجتماعية في ظل بنية مجتمعية لا تضمن للأديب مدخولاً قاراً، وبذلك يجد نفسه مضطراً للجري وراء مجد أدبي ومادي تضمنه السلطة مقابل المديح.

الإنسان / الممدوح:

يحضر سيف الدولة في القصيدة من خلال صورتين متناقضتين تتنازعان مختلف الدلالات التي ترتبط به.

صورة إيجابية: تتمثل في بنية المدح بشكل واضح من خلال وحدات دلالية ذرية توظف كلها لرسم صورة إيجابية للممدوح المنتصر.

صورة سلبية: تتمثل في بنية العتاب، حيث يبدو الممدوح مفرطاً في العلاقة التي تربطه بالشاعر، منصرفاً عنه إلى الحساد والوشاة.

تتشكل الصورة الإيجابية من العناصر الدلالية التالية:

-الحسن المطلق في حالتي الحرب والسلم:

وقد نظرت إليه والسيوف دم

 

 

قد زرته وسيوف الهند مغمدة

وكان أحسن مافي الأحسن الشيم.

 

 

فكان أحسن خلق الله كلهم

-قوته الحربية جعلت العدو يتفادى مواجهته، تجسد هذا المعنى الأبيات
(7-8-9-10-11) إن التركيز على البطولة العسكرية للممدوح أصبحت دلالة مستهلكة بأشكال مختلفة في قصائد المديح، ولذلك فإن المعاني التي توظف لرسمها غالباً ما تكون مجترة ومكررة، تركز على الشجاعة باعتبارها إحدى الخصال الأساسية في المديح:

إلى جانب العقل والعدل والعفة، والمتنبي يركز في قصيدته أحد أقسام الشجاعة هو "النكاية في العدو والمهابة".

إن صورة الممدوح في القصيدة في شكلها الإيجابي تدفعنا إلى إبداء الملاحظتين التاليتين:

1) الصورة الإيجابية للممدوح متمثلة في الشجاعة والنكاية في العدو تجمعها طقوس رسمية تتحكم فيها السلطة السياسية، وأحكام معيارية سنها النقد العربي، وما على الشاعر إلا الاستسلام لهذين القيدين، خصوصاً أن القصيدة ستنشد أمام الممدوح، ومن المستحيل أن يخلو مدحه من صفات إيجابية، وإلا فما الداعي لإلقاء القصيدة أصلاً.

2) مختلف عناصر الصورة الإيجابية في بنية المدح مستهلك، خال من الانفعال الصادق، بخلاف بنيتي الذات (للفخر) والعتاب، وذلك يعكس توتر العلاقة بين الشاعر والممدوح.

الصورة السلبية:

إن أهم عنصر في الصورة السلبية للممدوح يتحدد في نوعية علاقته بالشاعر، ذلك أنه فرط فيها-حسب منطق القصيدة- وأخذ بكلام الحساد والوشاة.

ويمكن تقسيم هذه الصورة السلبية للممدوح إلى ثلاثة أبعاد دلالية تشكل استراتيجية العتاب:

                             العنصر الدلالي                                 الأبيات

العتاب   -عدم التكافؤ في العلاقة             1-2-3-12-26

                               (تقصير الممدوح وحب الشاعر)

الوشاة             -العمل بكلام الوشاة                     27-29-36

النصيحة           -البديل في رأي الشاعر                 12-3-28

                             (إعادة إنصافه)

من خلال الخطاطة السابقة يتضح أن الصورة السلبية للممدوح تخضع لاستراتيجية معينة، إذا أعدنا ترتيب مكوناتها الدلالية، نحصل على ثلاث محطات دلالية كبرى:

-الأولى: عدم التكافؤ في العلاقة بين الشاعر والممدوح، فالشاعر يحبه حباً صادقاً، لكنه يقابل بالتقصير من طرف سيف الدولة.

-الثانية: إنصاته لكلام الوشاة والعمل به.

-الثالثة: السبيل في رأي الشاعر هو إعادة النظر في العلاقة بإنصافه، وقد عبر عن ذلك بأبيات تتضمن نصائح غير مباشرة وأخرى مباشرة.

إن حضور العناصر الدلالية السابقة لم يخضع لترتيب معين يحكمه المنطق والترتيب، بل جاء متفرقاً، وهكذا نجد الحديث عن العنصر الواحد يتكرر عدة مرات، وهذه خاصية تميز الشعر الذي يخرق منطق الأشياء والأفكار.

عالم الطبيعة:

يمكن تصنيف مكوناته حسب الشكل التالي:

الحيوان

الطير

الأرض

 

 

-الليث-الجواد-الخيل

الرخم- شهب البزاة

البيداء- الفلوات-أرض- القور والأكم-البلاد.

- الوفادة –الرسم - الناقة

 

 

انطلاقاً من الجدول السابق نستنتج كل مكونات الطبيعة لندرس شكل ودلالة حضورها في القصيدة، ولنطرح كيفية تعامل الشاعر مع الطبيعة كأحد مصادر الإبداع الشعري في مختلف الثقافات والعصور.

الحيوان:

يحضر الحيوان في القصيدة من خلال (الأسد- الفرس- الناقة) ولكن بألفاظ أخرى تحيل في النهاية على نفس الأسماء السابقة.

الخيل: ترد الوحدات المعجمية التي تحيل على الفرس مرتين:

أدركتها بجواد ظهره حرم

 

ومهجة مهجتي من هم صاحبها

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

الخيل والليل والبيداء تعرفني

إن الخيل ترد مقترنة بالحرب، وإذا كانت هذه الدلالة واضحة في البيت الأول، فإنها في البيت الثاني لا تدرك إلا من خلال الدلالة الإيحائية لكلمة "الخيل"، أو من خلال المعنى الذي يتبادر إلى ذهن المتلقي، وهذا ما تركز عليه شروح الديوان، فقد جاء في شرح العكبري "... والخيل تعرفني لتقدمي في فروسيتها" وعليه فالخيل توظف لتأكيد ذات الشاعر على مستوى الفروسية.

-إذا كانت لفظة "الخيل" عارية من أية صفة في البيت السابق، فإن لفظة "جواد" تقترن بصفة تتمثل في "ظهره حرم"، كما أن "جواد" تتضمن على المستوى المعجمي صفة أو نعتاً، لأن الجواد هو الفرس الكريم، وهناك صفات أخرى تقترن بسرعة الفرس محدودة في المناقلة واليقال:

وفعله ما تريد الكف والقدم.

 

 

رجلاه في الركض رجل واليدان يد

إن الفرس في القصيدة يوظف دائماً لتأكيد ذات الشاعر على مستوى الفروسية، رغم إضفاء صفات إيجابية عليه، إنه في النهاية مجرد وسيط مرن وإيجابي لتحقيق بطولة فردية. ولابد من الإشارة إلى المكانة التي يحتلها لفظ الخيل في معجم المتنبي، وفي سيفيات المتنبي:

"يتكرر ثماني وخمسين مرة، وإلى جانب لفظ الخيل تتكرر مجموعة كبيرة من الألفاظ تدل على الخيل أو صفاتها أو أجزائها أو حركاتها.. ولكن معظم هذه الألفاظ لا يرد إلا مرات معدودات باستثناء لفظ الجياد الذي يتكرر عشرين مرة".

الناقة:

يرد لفظ الناقة مرة واحدة في البيت التالي:

لا تستقل بها الوفادة الرسم.

 

أرى النوى يقتضيني كل مرحلة

فالناقة توصف بسرعة السير من خلال الوحدتين المعجمتين "الوفادة" و"الرسم"، فالوفد والرسم ضربان من السير السريع.

-الناقة تقترن بالرحيل على مستوى الدلالة، إذ اعتبرنا النوى مرادفة للبعد، وبذلك يصبح حضورها سلبياً رغم أنها كالخيل- تعتبر واسطة لرحلة مجهولة لم تتحقق زمن النظم والإنشاد، وسيكون بطلها فيما بعد هو الشاعر عند فراقه لسيف الدولة.

الأسد (الليث):

تحيل القصيدة على الليث في البيتين التاليين:

حتى أتته يد فراسة وفم

 

 

وجاهل حده في جهله ضحكي

فلا تظنن أن الليث يبتسم

 

 

إذا رأيت نيوب الليث بارزة

 

في البيتين تتداخل الصفات التي ترتبط بالأسد بتلك التي ترتبط بالشاعر، حتى تصبح شيئاً واحداً، فالشاعر يستعير لنفسه خصائص ترتبط بالأسد ويوهم القارئ بأن الليث في القصيدة هو الشاعر وليس الأسد..

-يقترن الليث بصفات سلبية لأنه حيوان مفترس، هذه هي صورته الحقيقية في ذهن المتلقي، والشاعر يستعير منه مقومات الإفتراس (يد فراسة وفم- نيوب الليث) لكي يرسم لنفسه صورة في صراعه ضد خصومه.

الطبيعة:

الأرض: يستعمل الشاعر مجموعة من الألفاظ التي تحيل على الأرض مثل: الأرض- البيداء- القور والأكم- البلاد.. ..، وكلها تتضمن دلالة سلبية انطلاقاً من معناها المعجمي، إلا أن الشاعر يستغل هذه السلبية بذكاء لتأكيد ذاته، فالبيداء تعرفه:

والسيف والرمح والقرطاس والقلم.

 

 

الخيل والليل والبيداء تعرفني

وهو يصحب للوحش منفرداً في الفلوات:

حتى تعجب مني القور والأكم.

 

 

صحبت في الفلوات الوحش منفرداً

فاستراتيجية الشاعر واضحة، توظيف مكونات طبيعية موغلة في السلبية، ولأنها كذلك، يوظفها لرسم صورة إيجابية عن ذاته.

و"البلاد" ترد مقترنة بمعنى سلبي: شر البلاد مكان لا صديق به// وشر ما يكسب الإنسان ما يَصمُ .

المطر: يرد من خلال "الغمام" و"الديم"

يزيلهن إلى من عنده الديم

 

 

ليت الغمام الذي عندي صواعقه

"الغمام" و"الديم" وحدتان معجميتان تتضمنان معنىً إيجابياً على المستوى المعجمي الصرف، إلا أن الشاعر يوظفهما للتعبير عن معنى سلبي، فينسب إلى الغمام الصواعق، للدلالة على الأذى، الذي يلحقه من طرف الممدوح.

-عالم الأشياء:

يحيل عالم الأشياء على وحدتين دلاليتين هما الحرب والكتابة:

يشكل الرمح والسيف العنصرين الأساسيين في عالم الأشياء المرتبط بالحرب:

يتكرر لفظ السيف في الأبيات التالية التي تنتمي إلى بنية المدح:

وقد نظرت إليه والسيوف دم

 

 

قد زرته وسيوف الهند مغمدة

تصافحت فيه بيض الهند واللمم

 

أما ترى ظفراً حلواً سوى ظفر

كما يتكرر لفظ السيف في بنية الذات:

حتى ضربت وموج الموت يلتطم

 

 

ومرهف سرت بين الجحفلين به

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

الخيل والليل والبيداء تعرفني

ويرد الرمح في عجز البيت السابق تالياً للسيف:

"والسيف والرمح والقرطاس والقلم".

-إن الملاحظة الأولى تتحدد في أن نسبة تكرار السيف في بنية المدح أكثر من نسبة تكراره في بنية الذات، مع فارق بسيط يكاد يجعل النسبتين متساويتين. والمتنبي "يستعمل لفظ السيف في المدح وفي حديث الحرب بنسبة متقاربة بينما يستعمله مرات معدودات في حديثة عن نفسه"، ولا تهمنا الدلالة المعجمية لتواتره في شعر المتنبي أو في القصيدة، بقدر ما يهمنا أنه يقترن بالممدوح ليمنحه قيمة إيجابية على المستوى الحربي، نظراً لصفاته الذاتية ولاقترانه دائماً بلحظة النصر والظفر.

ويستعمل الشاعر السيف كوسيلة لتأكيد ذاته في بنية للفخر على المستوى الحربي، لكن في إطار محدود وفردي، ويمكن التمييز بين مستويين في توظيفه للسيف:

المستوى الأول: يمنح السيف صفات معينة "مرهف" و"الضرب"، والصفة الثانية تستفاد من سياق البيت، أما الأولى فواضحة وتتحدد في الدلالة على أنه حاد وقاطع، المستوى الثاني: ترد لفظتا "السيف" و"الرمح" بدون صفة تحددهما، كباقي الوحدات المعجمية التي تشكل بنية البيت، فالسيف والرمح يوظفان للشهادة على بطولة المتنبي على مستوى الفروسية (الحرب)، ولايتوافران على أي امتياز ذاتي خاص بهما.

-يمكن القول بصفة عامة إن صورة السيف في القصيدة من خلال بنيتي الذات والمدح إيجابية، ولعلها أكثر وضوحاً في بنية المدح لأن الحرب فعلية وذات قيمة موضوعية. يضاف إلى ذلك الأوصاف التي أضفاها الشاعر على السيف "سيوف الهند"، "السيوف دم"، "كبيض الهند".

-الكتابة:

الأشياء التي تنتمي إلى عالم الكتابة محدودة، تجتمع في بيت واحد:

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

 

الخيل والليل والبيداء تعرفني

مكونات عالم الكتابة عارية من الصفات، إنها توظف لتشهد على تفوق الشاعر على مستوى الشاعرية كما يشهد السيف والرمح على بطولته الحربية.

تتوزع عالم الأشياء عناصر تحيل على الكتابة والحرب، وهذان العالمان يتوزعان بين الشاعر والممدوح. فالممدوح هو الذي يمتلك سلطة سياسية فعلية تؤهله لخوض الحرب الحقيقية، والانتشاء بـ"ظفرها الحلو"، وكل إنجازاتها الإيجابية.

أما الشاعر فيمتلك سلطة أدبية أهلته لتحقيق شهرة أصبحت مصدر حسد الحساد وكيد الكائدين، إلا أن المتنبي مسكون بهاجس تملك السلطتين معاً، وهذه هي المعادلة الصعبة والمأساوية في حياته وشعره، استطاع أن يعكسها ويعانيها بصدق وبجرأة نفسية. ورغم وعيه باستحالة تملك السلطة السياسية التي تحقق له بطولة حربية، فإنه يصر على تملك بطولة فردية في الحرب.

والواقع يؤكد ذلك لأنه كان يشارك إلى جانب سيف الدولة في الغزوات-، وتبقى بطولته العسكرية محدودة بالقياس إلى طموحه السياسي، وعدم تملكه للسلطة السياسية.

إن عالم الأشياء عندما يحيلنا على عنصري الكتابة والحرب، يضعنا أمام الإشكالية الكبرى في القصيدة، محددة في ثنائيات لا حصر لها، تحكم العلاقة المعقدة بين الشاعر والممدوح: السلطة/ الكتابة، الشعر/ السياسة، الكلمة/ السيف، الشاعر/الممدوح، وهذه الثنائيات هي التي تمنح النص توتراً يندر تحققه في الشعر العربي القديم.

-يعاني الشاعر والممدوح من خصاء متبادل لكنه مختلف، فالأول يعاني من خصاء سياسي لأنه لا يمتلك السلطة السياسية، بل الأدبية، ويسكنه هاجس الجمع بينهما، أما الثاني فيعاني من خصاء أدبي، لأنه لا يمتلك السلطة الأدبية، التي تخلد مجده بمختلف أشكاله، لذلك يصبح الشاعر ضرورياً لتحقيق هذا الهدف، كما يصبح الممدوح ضرورياً لتحقيق مجد مادي ومعنوي للشاعر. إنها اللعبة المضمرة بين الطرفين، كلما اختلت عوامل توازنها تعرضت العلاقة بينهما لتهديد نهايتها.

الإنسان

السلطة الفعلية

السلطة الغائبة

نوعية الخصاء

الشاعر

أدبية

سياسية

سياسي

الممدوح

سياسية

أدبية

أدبي

انطلاقاً من تحليلنا السابق لعالم الأشياء، نصل إلى الاستنتاجات التالية:

عالم الأشياء محدود جداً، لا يشمل سوى عناصر قليلة تنتمي إلى الكتابة والحرب، ويمكن أن نفسر ذلك بأن التركيز في القصيدة يتوجه إلى عالم الإنسان.

يتميز بالإيجابية التي تقترن بمكوناته المرتبطة بالممدوح والشاعر، مع حضورها بكيفية أكثر أهمية في بنية المدح.

عالم الأشياء لا يتميز بصفات إيجابية خاصة به، إنه يوظف دائماً لخدمة معاني تنتمي إلى الممدوح أو للشاعر، ويبقى الإنسان هو المتحكم في الأشياء.

التناص: Intertextualité

-من الصعب التطرق إلى كل الإشكالات النظرية والمنهجية التي يطرحها مفهوم التناص، نظراً لكثرة الدراسات التي أنجزت حوله، وصعوبة استيعاب اتجاهاتها وخلفياتها، ومع ذلك يمكن أن نشير إلى بعض المعطيات النظرية، والملاحظات المتواضعة، التي تشكل تمهيداً لتحليل ظاهرة التناص في قصيدة المتنبي:

-  من الناحية التاريخية والاصطلاحية، ارتبط مفهوم التناص في تشكله النظري الأول بميخائيل باختين، ويستعمل لفظ أو مصطلح الحوارية لينعت العلاقات القائمة بين الملفوظات، كما يؤكد أن التناص في النص الشعري خافت ومحدود بالمقارنة مع التناص في جنس أدبي آخر محدد في الرواية.

وقد اهتم باحثون آخرون بظاهرة التناص من أهمهم: جوليا وريفاتير كريستيفيا وجيرار جينيت، الخ

تركز جل تعاريف التناص على أنه تفاعل بين عدة نصوص، فريفاتير يرى أن "التناص هو إدراك المتلقي للعلاقات بين عمل أدبي وأعمال أدبية أخرى سبقته أو تلته"، ويعرفه جيرار جينيت: Gerad Gentte بأنه:

    "علاقة حضور مشترك بين نصين أو نصوص كثيرة".

    ولا داعي لاستعراض تعاريف أخرى، لأن هذه العملية لا تهمنا بالدرجة الأولى بقدر ما يهمنا تحليل التناص في القصيدة. وسنكتفي بالإشارة إلى الملاحظات التالية:

هناك تعاريف متعددة للتناص، وليس هناك تعريف نهائي ومطلق.

كل التعاريف تلح على علاقة التفاعل بين نص معين ونصوص أخرى تربطه بها علاقة التناص.

أغلب الدراسات التي أنجزت حول التناص ذات طابع نظري صرف، ولم تستطع تحديد آليات معينة ودقيقة لضبط ظاهرة التناص في الخطاب الشعري.

تحديد التناص وضبطه عملية تتحكم فيها عوامل متعددة من أهمها ثقافة المتلقي وحدوسه وكثرة إطلاعه، وقد أحس بهذه الصعوبة عبد العزيز الجرجاني، ففي سياق حديثه عن السرقة قال: "وهذا باب لا ينهض به إلا الناقد البصير والعالم المبرّز وليس كل من تعرض له أدركه، ولا كل من أدركه استوفاه، واستكمله".

لقد عرف النقد العربي القديم ظاهرة مماثلة للتناص هي السرقة، وقد شكلت موضوعاً للسجال وللمناقشة، إلا أنها أفرزت عدة تصورات سلبية حول التفاعل بين مختلف النصوص التي تنتمي إلى الثقافة العربية، كما وظفت لأهداف غير علمية وغير موضوعية للحط من قدر بعض الشعراء (المتنبي كنموذج)

وإذا عدنا إلى مستوى التحليل، فإن أهم صعوبة تطرح هي آليات التناص، وقد قمت بصياغة آليات متعددة ارتأيت أنها تتحكم في علاقة التناص التي تربط أبياتاً من القصيدة بنماذج شعرية سابقة أو معاصرة لها، وهي آليات محدودة الأهمية النظرية ولكنها مع ذلك مكنتني إلى حد ما من الكشف عن نوعية العلاقة القائمة بين قصيدة المتنبي ونماذج شعرية معينة.

 

النموذج الأول

 

فلا تظنن أن الليث مبتسم

 

إذا رأيت نيوب الليث بارزة

 

 

يؤكد الشيخ يوسف البديعي أن هذا البيت مأخوذ من ديك الجن

رة ليث في لبدتي رئبال

 

 

وإذا شئت أن ترى الموت في صو

أبيض صارم وأسمر عالي

 

 

فألقه غير أنما لبدتاه

 

فيرى ضاحكاً لعبس الصيال

 

 

تلق ليثاً قد قلصت شفتاه

 

 

في حين يرى العكبري أن معنى البيت مأخوذ من قول الشاعر:

 

أبدى نواجذه لغير تبسم

 

لما رآني قد نزلت أريده

 

 

ويورد العكبري والشيخ يوسف البديعي بيتاً لأبي تمام:

فخيل من شدة التعبيس مبتسما

 

قد قلّصت شفتاه من حفيظته

 

فيرى الأول أنه مأخوذ من البيت الذي سبقت الإشارة إليه قبله مباشرة، في حين يرى الثاني أنه مأخوذ من ديك الجن.

انطلاقاً مما سبق نسجل الملاحظتين التاليتين:

أولاً         : اختلاف العكبري ويوسف البديعي في تحديد موطن السرقة الأصلي، وهذه مسألة طبيعية لأن تحديد السرقة يرتبط بثقافة المتلقي وحدوسه وخلفياته المضمرة.

ثانياً        : الشارح يحدد موطن السرقة في المعنى، في حين أن صاحب "الصبح المنبي" لا يحدد مجالها.

يدخل الشيخ يوسف البديعي البيت في الضرب الخامس عشر من السرقة وهو: "أن يأخذ المعنى ويسيراً من اللفظ، وذلك من أقبح السرقات وأظهرها شناعة على السارق". إلا أنه رغم ذلك يمتدح سرقة المتنبي عندما يعلق عليها قائلاً:

"لكنه أبرزه في صورة حسنة فصار أولى به".

-يلاحظ من خلال كلام يوسف البديعي تركيزه على سلبية السرقة المرتبطة بالمعنى، وهذا الحكم مخالف للتصور الحالي والذي يرى أن الشعر صياغة شكلية.

إن المقارنة بين بيت المتنبي وأبيات ديك الجن تؤكد وجود تجانس واختلاف بينهما، سنحاول تحديده.

فعلى المستوى المعجمي الصرف: تتكرر مجموعة من الوحدات المعجمية بنفس الحروف والأصوات في النموذجين معاً:

بيت المتنبي

أبيات ديك الجن

نيوب الليث- الليث

ليث- ليثاً

رأيت

فيرى

كما تربط علاقة الترادف بين بعض الكلمات الواردة في النموذجين:

بيت المتنبي

أبيات ديك الجن

يبتسم

يرى ضاحكاً

نيوب الليث بارزة

قلصت شفتاه

وهناك تشابه على مستوى البنية التركيبية، فالمتنبي يستعمل "إذا رأيت" وهذا التركيب مشابه لـ"وإذا شئت أن ترى" الذي يستعمله ديك الجن.

كما أن النموذجين يتجانسان على مستوى الدلالة.

انطلاقاً من العملية الوصفية السابقة، يمكن تحديد الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين المتنبي وديك الجن:

آلية المماثلة : وتتحدد في تشابه النموذجين على عدة مستويات: المعجم، التركيب، الدلالة، وهذا يؤدي إلى حوار بين الشاعرين يطبعه احترام النموذج الأول وتكريسه.

آلية التكثيف : إن الفرق الجوهري بين النموذجين يتمثل في خاصية التكثيف التي تميز بيت المتنبي، على المستوى الدلالي، بواسطة الاختزال وتجنب الحشو والتمطيط والتفصيل. ولا شك أن البحر كشكل عروضي قد ساعد المتنبي على تحقيق عنصر التكثيف.

آلية التأليف  : هناك عنصر آخر منح بيت المتنبي جمالية آسرة، يتحدد في طريقة التأليف بين الوحدات المعجمية وطبيعة العلاقات التركيبية التي تجمع بينها. ويمكن القول بتحفظ مرن، أن بيت المتنبي أقرب إلى بيت أبي تمام على مستوى التأليف:

أبدى نواجذه لغير تبسم

 

لما رآني قد نزلت أريده

النموذج الثاني:

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

الخيل والليل والبيداء تعرفني

أخذه:

رابع العيس والدجى والبيد

 

اطلبا ثالثاً سواي فإني

وقد أخذه أبو الفضل الهمذاني بقوله:

وأنني تدعواني الفضل والنعم

 

إن شئت تعرف في الآداب منزلتي

والسيف والنرد والشطرنج والقلم

 

 

فالطرف والقوس والأوهاق تشهد لي

تربط بين نموذج المتنبي ونموذج أبي الفضل الهمذاني علاقة تناص، على عدة مستويات، يمكن اختزالها في الخطاطة الموالية:

 

بيت المتنبي

بيت أبي الفضل الهمذاني

- الإيقاع

البسيط- القافية: ميمية مطلقة

البسيط- القافية ميمية مطلقة

- التركيب

نفس البنية التركيبية

نفس البنية التركيبية.

 

(مماثلة مطلقة)

(مماثلة مطلقة)

- المعجم

السيف- القلم

السيف- القلم

- الحقول الدلالية

(الغول- السيف- الرمح)

(الطرف والقوس والأوهاق والسيف)

 

الحرب

الحرب

انطلاقاً من الجدول السابق يمكن تحديد الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين بيت أبي الطيب المتنبي، وبيت أبي الفضل الهمذاني، على الشكل التالي:

آلية المماثلة          : تشمل آلية المماثلة كل مكونات الخطاب الشعري في البيتين:

    فهي تظهر على مستوى الإيقاع (نفس البحر والقافية)، وعلى مستوى التركيب (بنية تركيبية ونحوية متجانسة)، وعلى مستوى المعجم (تطابق بين بعض الكلمات، كما تشمل جزءاً هاماً من الدلالة (العناصر الدلالية التي تحيل على الحرب).

آلية التأليف : نفس الآلية التي تتحكم في البنية التركيبية والنحوية لبيت الهمذاني:

تتحكم في مثيلتها بالنسبة لبيت المتنبي، ويمكن التدليل على ذلك من خلال المقارنة بين البيتين:

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فالخيل والليل والبيداء تعرفني  //

بيت المتنبي

والسيف والنرد والشطرنج والقلم

فالطرف والقوس والأوهاق تشهد لي

بيت أبي الفضل الهمذاني

آلية الاختلاف: يمكن حصر آلية الاختلاف التي تتحكم في الفرق بين البيتين في مستويين:

-الدلالة: إذا كان البيتان يحيلان على حقلين دلاليين محدودين في الحرب والكتابة، فإنهما يختلفان في الإحالة على حقول دلالية أخرى، ويتمثل ذلك في:

1-أن المتنبي: يختلف عن الهمذاني، فالأول يحيل على عالم المغامرة والرحيل (الليل- البيداء)، في حين أن الثاني يحيل على عالم المتعة واللهو (النرد- الشطرنج). وقد أعطى التأكيد على عالم المغامرة والرحيل شحنة دلالية متميزة لبيت المتنبي، تضافرت مع باقي العناصر الأخرى التي توظف لتأكيد الذات لرسم بطولة فردية للشاعر.

-الصوت: يتميز بيت المتنبي بشكل واضح وأساسي عن بيت أبي الفضل الهمذاني على المستوى الصوتي الصرف، إذ تتحقق للأول موسيقية آسرة تغيب في الثاني، ويرجع ذلك إلى توفق المتنبي في اختيار وحدات معجمية ذات أصوات متقاربة المخارج وسهلة النطق، في حين أن أبا الفضل الهمذاني استعمل كلمات أفقدت بيته جماليته المحتملة (الأوهاق- النرد- الشطرنج).

وفي الأخير لابد من الإشارة إلى علاقة التناص بين بيت المتنبي وبيت البحتري، على عدة مستويات:

المعجم: البين البيداء

الترادف النسبي: الليل - الدجى.

الدلالة: مماثلة جزئية (الإحالة على المغامرة والرحيل.). وهذا هو العنصر الدلالي الذي أخذه المتنبي من البحتري، واحله محل عالم المتعة الذي استغنى عنه، والذي يحضر في نموذج أبي الفضل الهمذاني، وهكذا نرى بوضوح مدى استفادة المتنبي من البحتري وأبي الفضل الهمذاني في تشكيل بيته الشعري.

النموذج الثالث:

فمالجرح إذا أرضاكم ألم.

 

 

إن كان سركم ما قال حاسدنا

قال الواحدي هذا من قول منصور الفقيه:

ت أن لقلبك فيه سرورا

 

سررت بهجرك لما علمـ

ولا كنت يوماً عليه صبورا

 

 

ولولا سرورك ما سرني

 

إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا

 

 

لأني أرى كل ما ساءني

 

تتحدد علاقة التناص بين النموذجين الشعريين السابقين في المستويات التالية:

المعجم: تتطابق بعض الكلمات في النموذجين تطابقاً تاماً لأنها تتكرر بنفس الأصوات والحروف:

نموذج المتنبي

إذا أرضاكم

سركم

نموذج منصور الفقيه

إذا كان يرضيك

سررت- سروراً- سرورك ما سرني

المعجم:

التركيب: هناك تشابه بين النموذجين على مستوى البنية التركيبية، رغم أن القراءة الأولى والمتسرعة لبيت المتنبي توهمنا بعكس ذلك، ولا يمكن للتشابه التركيبي أن يتضح إلا بإعادة تفكيك بيت منصور الفقيه:

إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا

 

 

لأني أرى كل ما ساءني

وإعادة كتابته من جديد على الشكل التالي:

فإنني أرى ذاك سهلاً يسيراً

 

إذا كان يرضيك ما ساءني

ولابد من الإشارة إلى ملاحظة أساسية تتحدد في محافظتنا الكلية على نفس البنية الإيقاعية للبيت، بعد إعادة ترتيب عناصره التركيبية من جديد.

وهكذا يبدو التجانس التركيبي واضحاً بين النموذجين خصوصاً بين صدريهما:

فإنني أرى ذاك سهلاً يسيرا

 

 

إذا كان يرضيك ما ساءني

فما لجرح إذا أرضاكم ألم.

 

 

إن كان سركم ما قال حاسدنا

 

الدلالة: يحيل النموذجان على نفس الدلالة، والفرق بينهما أن المنصور يخاطب المرأة، أما المتنبي فيخاطب الممدوح، أي أن غرضي النموذجين مختلفان: الغزل والمدح.

من خلال المناقشة السابقة، نستخلص أهم الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين النموذجين:

آلية المماثلة          : وهي جزئية ومحدودة على المستويات التالية: المعجم، التركيب، وتبدو أكثر وضوحاً في الدلالة.

آلية التكثيف : أهم خاصية تميز بيت المتنبي عن أبيات منصور الفقيه هي خاصية التكثيف، فقد اختزل الأول دلالة الأبيات الثلاثة،

وهناك إمكانية ثانية هي أن المتنبي لم يختزل كل أبيات منصور الفقيه، بل اقتصر على إعادة صياغة البيت الأخير فقط، وما يعضد هذه الفرضية المماثلة الدلالية بينه وبين بيت المتنبي.

آلية الاختلاف      : وتظهر على مستوى التركيب، حيث أعاد المتنبي كتابة بيت منصور الفقيه بتقديم عناصر تركيبية وتأخير أخرى، وذلك بنقل:

"إذا كان يرضيك" التي تقع في بداية عجز نموذج منصور الفقيه إلى أول عجز نموذجه: "إن كان سركم ما قال حاسدنا.

وعلى مستوى المعجم: أدخل تغييراً على الكلمات، وذلك باستعمال أخرى بدلها، إما بواسطة الترادف: "إن كان سركم" بدل "إذا كان يرضيك".

أو بواسطة تحديد المعنى وتخصيصه: "حاسدنا" بدل "كل ما ساءني" أو عن طريق التقابل المعنوي: "فما لجرح إذا أرضاكم ألم" عوض: "إذا كان يرضيك سهلاً يسيراً".

آلية التحويل : وتتحدد في أن المتنبي أخرج المعنى من غرض أصلي (الغزل) إلى غرض آخر (المدح)، إلا أننا لن نبالغ في أهمية ذلك، لأن مخاطبة الممدوح مخاطبة المحبوب، من خصائص شعر المتنبي، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في البحث.

يتضح مما سبق- رغم محدودية أهمية ما قمنا به- مختلف المراحل التي يخضع لها النموذج الأصلي حتى يتم احتواؤه من طرف النموذج الفرعي، وعلى كل، فالأكيد أن آليات التناص جد معقدة وغامضة.

النموذج الرابع:

يزيلهن إلى من عنده الديم.

 

 

ليت الغمام الذي عندي صواعقه

وهو مأخوذ من قول حبيب:

كما قصرت عنا لهاه ونائله

 

فلو شاء هذا الدهر أقصر شره

ومثله لابن الرومي:

وعند ذوي الكفر الحيا والثرى الجعد

 

أعندي تنقض الصواعق منكما

وللبحتري

خلف إيماض برقه وجموده

 

 

سيله يقصد العدى تجاهي

وأخذه السري الموصلي فقال:

حظي، وحظ سواي من أنوائه.

 

 

وأنا الفداء لمن مخيلةُ برقه

 

-إن القراءة الأولية للأبيات السابقة تؤكد وجود عناصر مشتركة بينها:

المعجم: تتكرر الوحدات المعجمية التي تحيل على عالم الطبيعة:

- ابن الرومي:                       الصواعق- الثرى الجعد.

- البحتري:                           سيله- إيماض برقه.

- السري الموصلي:                  مخيلة برقه

- المتنبي:                            الغمام- صواعقه- الديم.

-التركيب      : نلاحظ في كل الأبيات توزع الضمائر بين المتكلم المفرد والغائب المفرد، بين شطري البيت بشكل متساوٍ تقريباً، وغالباً ما يحيل ضمير المتكلم المفرد على الشاعر.

-الدلالة       : هناك تشابه على المستوى الدلالي بين كل الأبيات السابقة، رغم اختلاف الشعراء في طريقة التعبير عن المعنى المقصود.

انطلاقاً مما سبق نستنتج كالعادة الآليات التي تتحكم في علاقة التناص، بين نموذج المتنبي وباقي النماذج الشعرية السابقة أو المعاصرة له.

-آلية المماثلة       : تتحكم في بيت المتنبي على عدة مستويات، المعجم (تشاكل الطبيعة)، التركيب (توزع الضمائر بين المتكلم المفرد والغائب المفرد)، الدلالة (الإحالة على نفس المعنى الذي تحيل عليه الأبيات السابقة).

-آلية التأليف        : وتظهر واضحة على مستوى المعجم، فقد وظف المتنبي وحدات معجمية تحيل على عالم الطبيعة (الغمام- الديم- صواعقه)، وكلها تحضر في النماذج الأخرى، إلا أن المتنبي استطاع أن ينتقي كلمات شاعرية في حد ذاتها (الغمام، الديم)، وهنا تحضرني الدراسة التي أنجزها ريفاتير: Michael Riffaterre عن "شاعرية الكلمة عند فيكتور “Lp poetisutian du not chy Victor Hugo”. ونحن في حاجة إلى مثل هذه الدراسات في الأدب العربي، لأنها تمكننا من الخصائص الأسلوبية والشعرية للشعراء. وإذا توفق المتنبي في انتقاء وحدات معجمية شاعرية، فإنه لم يتوفق في الصياغة الشكلية خصوصاً في عجز البيت "يزيلهن إلى ما عنده الديم"، وهكذا يبدو تفوق نموذجين اثنين في رأيي- على نموذج المتنبي في هذا السياق وهما بيت أبي تمام:

كما قصرت عنا لهاه ونائله

 

 

فلو شاء هذا الدهر أقصر شره

وبيت السري الموصلي:

حظي وحظ سواي من أنوائه.

 

 

وأنا الفداء لمن مخيلة برقه

 

وينطبق عليه فعلاً تعليق العكبري: "وألفاظ السري وسبكه أحسن من الجماعة"

ـ يصدر حازم القرطاجني مجموعة من الأحكام حول البسيط في مواضع مختلفة من كتابه فيصفه بالبساطة والطلاوة "وتجد للبسيط بساطة وطلاوة" ويمنحه إلى جانب الطويل متانة متميزة بالمقارنة مع باقي البحور لقدرتهما على احتواء تجارب شعرية ومعاني مختلفة: "ومن تتبع كلام الشعراء في جميع الأعاريض وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها من الأوزان ووجد الافتتان في بعضها أعم من بعض، فأعلاها درجة في ذلك الطويل والبسيط". ويلتقي الدكتور عبد الله الطيب مع حازم القرطاجني في تفضيله الطويل والبسيط على سائر البحور:

"الطويل والبسيط أطول بحور الشعر العربي، وأعظمها أبهة وجلالاً، وإليهما يعمد أصحاب الرصانة وفيهما يفتضح أهل الركاكة والهجنةوهما من الأوزان العربية بمنزلة السداسي عند الإغريق والمرسل التام عند الإنجليز" ويصفه بالجلالة والروعة: "البسيط  كما قدمنا أخو الطويل في الجلالة  والروعة".

والملاحظة المثيرة هي أن عبد الله الطيب لا يتحدث عن البسيط حديثاً مستقلاً، فهو دائماً يقارنه بالطويل ليبقى أسير التصور النقدي الشائع الذي يفضل الطويل على كافة البحور: "والطويل أفضلهما وأجلهما وهو أرحب صدراً من البسيط، وأطلق عناناً، وألطف نغماً [..]، ومما يدلل على سعة الطويل، أنه تقبل من الشعر ضروباً عدة كاد ينفرد بها عن البسيط، مثال ذلك أن الشعراء الغزليين على عهد بني أمية أكثروا من النظم فيه على أنهم أقلوا جداً من البسيط".

يعتبر عبد الله الطيب أن أصل البسيط الرجزي ينقص من جماله وموسيقيته:

"وأصل البسيط رجزي، ولا يكاد وزن رجزي يخلو من الجلبة مهما صفا".. ويؤكد نفس الفكرة في موضع آخر "ويقصد بالبسيط  أن فيه بقية من استفعالات الرجز ذات دندنة تمنع نغمه أن يكون خالص الاختفاء  وراء كلام الشاعر، وكامل النزول منه بمنزلة الجو الموسيقي الذي يتكون من الشعر كالإطار من الصورة".

ينتقل عبد الله الطيب إلى إنارة علاقة البسيط بانفعالات معينة، فيرى أنه: "لا يكاد يخلو من أحد النقيضين: العنف أو اللين".

بعد إصدار هذا الحكم يقدم نماذج شعرية مختلفة لتأكيد شرعيته وصحته، ومن ضمنها قصائد للمتنبي، الذي يرى أن "أعنف ما قاله في البسيط"، ويعتبر قصيدة "واحر قلباه" من أروع وأعنف ما نظمه "هذا وللمتنبي من الشعر العنيف في بحر البسيط، روائع عدة، فأحيل القارئ على ديوانه  وليقرأ هجاءه لكافور وعتابه لسيف الدولة  في قوله "واحر قلباه ممن قلبه شبم".

إن هذه الأحكام المرتبطة بالبسيط ليست صحيحة بشكل مطلق، فالموسيقى البحر ليست عنصرا ًثابتاً بل متغيراً تبعاً لقدرة، الشاعر الخاصة على التحكم في الإيقاع وتشكيله وتنويعه، فالقصيدة الواحدة رغم انتمائها إلى بحر واحد فإنها لا تعكس تجانساً موسيقياً واحداً، كما أن البسيط لا يقترن دائماً بصفتي اللين والعنف، فهو كشكل إيقاعي قابل  لاحتواء صفات وأحاسيس ومعاني متناقضة، إلا أن عبد الله الطيب ينطلق في أحكامه من نماذج شعرية قديمة تمارس تأثيراً على حسه الذوقي والانطباعي..

نكتفي إذن بهذه المعطيات النظرية التي تتمحور حول إشكالية موسيقى الشعر ومعناه، وتمس بكيفية مباشرة: علاقة الوزن الشعري بالغرض أو المعنى الذي يحيل عليه. ولابد من الإشارة إلى ملاحظة منهجية أساسية هي أن إثارة العلاقة بين أوزان الشعر ومعانيه لم تبعدنا عن القصيدة وعن  هويتها العروضية و علاقة هذه الأخيرة بالغرض أو المعنى.

بل إنني أعتبر هذه الخطوة أساسية لأنها تضعنا مباشرة أمام أحكام  ومواقف نقدية معيارية ينبغي أن نحدد موقفنا منها عند تحليل أي نص شعري قديم، ومن سوء حظ النقد العربي ـ إن صح هذا التعبير ـ أن إثارة إشكالية موسيقى الشعر ومعناه تميزت بخاصتين سلبيتين:

الأولى:أهميتها التنظيرية محدودة لم تفرز مساهمات عميقة تساعد المحلل على توظيفها في النصوص.

الثانية:  أفرزت أحكاماً نقدية معيارية أغلبها خاطئة، تستند إلى الذوق والانطباع، ومع ذلك ما زالت تجد صداها في الكثير من الدراسات المهتمة بالشعر.

وإذا انتقلنا  إلى النقد الغربي فإننا نلاحظ عمقاً واهتماماً كبيراً بالإشكالية، أفرز دراسات جادة ومهمة. تنتمي القصيدة على المستوى العروضي إلى بحر البسيط، الذي يحتل المرتبة الثانية في الشعر العربي بعد الطويل، من حيث نسبة الشيوع، والثالثة في شعر المتنبي بعد الطويل والكامل، وانطلاقاً من المناقشة السابقة لإشكالية موسيقا الشعر ومعناه، والانتقادات الموجهة للذين يتبنون الربط التقليدي بين الأوزان والمعاني، فإننا لن نتساءل عن ملائمة البحر للغرض الشعري، رغم سهولة تأكيد ذلك.

يمكن التأكيد على أن البحر البسيط باعتباره بحراً طويلاً، أتاح للشاعر إمكانية إيجابية لإيصال معاني معينة، ومنحه نفساً تركيبياً ودلالياً لكي يشحن تفاعيله بتجربة شعرية وشعورية معقدة، تتوزعها أغراض مختلفة: المدح، الفخر، العتاب وأحاسيس متناقضة: الحب، العتاب، الغضب………..

ويعتبر هذا في حد ذاته نسفاً للتصور التقليدي الذي يحصر بحوراً معينة في أغراض ومعانٍ وأحاسيس معينة، فقصيدة المتنبي تشهد تحولات أساسية وجوهرية على مستوى الدلالة رغم ثبات الشكل الإيقاعي الذي يتحكم  في صياغتها وهو البحر.

www.omaraltaleb.com