الفصل الرابع : تحليل بنيوي لقصيدة


(لئن هجرتك) لأبي نواس

 

قال أبو نواس:

لئن هجرتْكَ بعد الوصـل "أرْوى"           فلم تهجُرْكَ صافيةٌ عُقــــارُ
فخذها من بنات الكرْم صـــِرْفاً            كعين الديك يعلُوها احـــمرارُ
شراباً، إن تُزاوجْهُ بمـــــاءِ            تولَّدَ منهما دُرَرٌ كِبــــــار
طبيخُ الشمس، لم تطُبخْهُ قــِدْرٌ             بماءٍ، لا ولم تلذعْهُ نـــــارُ
على أمثالها كانت لكســـْرى              أنوشِرْوانَ تَتَّجرُ التِّجـــــارُ
إذا المخمورَ باكرها ثلاثــــاً             تطايرَ عن مفاصِله الخُمــــارُ
وهات فغنِّنى بيــــتي نُصَيْبِ             فقد وافاني القَدَحُ الـــــمدارُ
"ولولا أن يقال صَبا نُصـــيبٌ            لقلت بنفسِي النشأُ الصــــِّغار
بنفسي كلُّ مهضومٍ حَشـــاها            إذا ظُلِمَتْ، فليس لها انتصـــارُ

اتجاهات النص: ينقسم النص إلى نسقين، الأول نسق الحبيبة ويضم الشطر الأول من البيت الأول والأبيات السابع والثامن والتاسع، ويتمثل في الحبيبة (أروى) الهجر.

ويتضمن النسق الثاني، نسق الخمرة وهي موضوع القصيدة وتشمل الشطر الثاني من البيت الأول والأبيات الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس.

وينضم بيتا التضمين لنصيب في النسق الأول، وهما لا يمثلان ظاهرياً جزءاً من النسيج العام للقصيدة على الرغم من التقائهما في المعنى العام للنص الأصلي، ولكنهما في العمق يمثلان جزء لا ينفصل عن النص.

وإذا ما قارنا النسقين نجد أن النسق الأول يحتل مساحة أصغر من النسق الثاني الخاص بالخمرة. ويعود ذلك إلى رغبة الشاعر في تهميش الحبيبة ونفض اليد من أمرها، ليبقى المجال مفتوحاً أمام المعشوقة البديل: الخمرة. ونستشف ذلك من القاموس الخمري الطاغي على الأبيات: صافية، عقار، بنات الكرم، صرفاً، احمرار، شراباً، تزاوجه بماء، درر كبار، طبيخ الشمس، المخمور، باكرها، ثلاثاً، تطاير من مفاصله، الخمار، القدح، المدار.

المتكلم في القصيدة، الشاعر، يوجه الخطاب إلى شخص معين ندركه من خلال ضمير المخاطب (هجرتك/ لم تهجرك) ويمكن تحديده بهجر أروى له، وقد يبدو أن ضمير المخاطب هذا مجرد إجراء فني وبالتالي لا يخاطب الشاعر إلاّ نفسه، مختلقاً الموقف، ومختلقاً المخاطب.

وقد تعددت الضمائر في النص ضمير المتكلم (الشاعر)، ضمير المخاطب، ضمير الغائبة (الحاضرة/ الخمرة) دون أن ننسى بيتي نصيب بن رباح اللذين وردا في النص كأغنية (صوت غنائي) ومن اختيار الشاعر المتكلم (أبو نواس). وبالتالي فالمكان الذي قيلت فيه القصيدة هو مجلس شراب وغناء (البيت السابع)، وكنتيجة يمكن عدّ المقطوعة، صوتاً غنائياً، ويتعلق التضمين ظاهرياً بالمرأة وباطنياً بالخمرة، فالهاء في (حشاها) عائدة إلى الخمرة، وعليه سيكون تصريح نصيب باستعداده لفداء الجواري الحسان بنفسه، لولا خوفه من تقول الناس، وهذا يوافق روايات: الأغاني، والأعلام للزركلي والكامل للمبرد وغيرها من المصادر العديدة التي أكدت على عفة نصيب وتخلقه ورزانته التي تصل عندهم إلى حد كراهية الهجاء، ونصادف في البيت الأخير نوعاً من الرمزية في التصوير الشعري القائم على تشخيص الخمرة في صورة امرأة فاتنة ذات بطن هضيم أي أخمص، حيث يقول نصيب: أفدي بنفسي هذه الأنثى/ الخمرة، الرشيقة، وقد لا ينسجم شرح هذا البيت مع البيت الذي قبله، نتيجة غنى هذا البيت الناتج عن انزياح لفظة مهضوم إلى معنى الهضم، أي تحويل الطعام، ومنه العنب من شكل إلى شكل، أي التخمير فيصبح للبيت بناء على هذه الفرضية معنى آخر؛ أفدي بنفسي كل خمرة معتقة، وهو ما يؤيده الشطر الثاني (إذا ظلمت فليس لها انتصار)، وما ظلم الخمرة سوى عدم تخميرها وتعتيقها، وبالتالي فهي إذا لم تعتق فلن يكون لها أنصار ولا انتصار، وتبقى مظلومة ومن خلال القراءة الأولية نسجل الملاحظات التالية:

1- يثير الشاعر سؤالاً يتعلق بإصراره على خرق القيم الأخلاقية لمجتمعه العربي الإسلامي، مع سبق إصرار على التعبير الصريح عن هذا الخرق، وعلى التحدي والجرأة، وهذه الظاهرة تحتاج منا إلى تفسير خلال التحليل.

2- احتفال الشاعر بالخمرة ليس بريئاً ولا اعتباطياً بل له دلالات نجد معناها ومدلولها في وسطه الاجتماعي والثقافي، وفي تركيبه النفسي، مما يجعل الخمرة كائناً حياً يلعب دوره البارز في حياة الشاعر وتفكيره، وتتحول لديه إلى رمز لأشياء أخرى نرجو أن تتضح من خلال التحليل.

3- اختار أبو نواس للشاعر نصيب بيتي شعر ليبني على منوالهما (البحر الوافر، القافية الراء، الموضوع: طريقة التصوير، التركيب اللغوي) ليصبح لبيتي نصيب دلالة أخرى يفرضها سياق النص كاملاً، بالإضافة إلى المكان والزمان/ المجلس، واحتفال أبي نواس بالخمرة، كما ساعده التضمين على الاقتراب من لغة الحكي العادي من دون تكلف، وخلق في القصيدة تعدداً للأصوات خدم التصاعد الدرامي لها. كما أن اختيار نصيب بالذات وهو عبد أسود يبعث على التساؤل: لماذا لم يختر شاعراً عربياً مولعاً بالخمرة كالأعشى مثلاً؟ وإذا ما ربطنا بين بعد نصيب عن العروبة، وتحريم الخمرة في الإسلام، ندرك أن الاختيار لم يكن اعتباطياً، بل فيه من التحدي للعروبة الشيء الكثير، فهو يتجاهل العديد من الشعراء العرب المجيدين ويختار لتضمينه بيتين من الشعر لعبد أسود، ونحن لا ننكر التمايز الطبقي السائد في العصر العباسي بين طبقتي الأحرار والعبيد ولا سيما السودان منهم، وهكذا تمكن أبو نواس من خلق التحدي الكامل للمجتمع العربي الإسلامي بجمعه بين الخمرة المحرمة واعتزازه بالعبيد السود وتهميشه للشعراء العرب المبرزين.

4- اقتران الخمرة بالغناء يفرض جواً وفضاءاً مكانياً وزمانياً خاصاً شبيهاً بالاحتفال، تتحكم فيه طقوس متعارف عليها، حيث تتضافر استجابة الحواس مجتمعة (الذوق، السماع، النظر) من شرب الخمر والاستماع إلى شعر مغنى، من طرق صوت نسوي لجارية متخصصة بالغناء، ومن الرقص والكؤوس المدارة، الكل يفترض في هذا الفضاء، أن تحل الغريزة محل العقل، واللا شعور محل الشعور، والذات الفردية محل الذات الجماعية/ المجتمع. والأصوات محل الأفكار، حيث من المفروض أن تثار في السامعين المخمورين إحساسات وعواطف حقيقية، صادقة وآنية، وفي هذا السياق تدخل قصيدة أبي نواس وتبرز من خلال اختياره لبيتي نصيب المعجب بهما.

5- لو وقفنا عند المعنى الظاهر لبيتي نصيب-التضمين- لوجدناه يقف عند ألفاظ بعينها: صبا، بنفسي، النشء الصغار، مهضوم حشاها (الضعف)، إذا ظلمت، ليس لها انتصار فإذا صبا الإنسان خرج على مواصفات مجتمعه، فهو خارج على المجتمع، وهذا ما يبتغيه أبو نواس بالذات، الخروج على المجتمع العربي الإسلامي، فكيف جاء هذا الخروج؟ إنه يشتهي الصغار والصغار هنا تشمل الجنسين (الإناث والذكور) واشتهاء الصغار شذوذ يرفضه المجتمع العربي الإسلامي، وما زالت القوانين الحديثة تعاقب مغتصبي الصغار، هذا هو الخروج الأول على المجتمع، أما الخروج الثاني على المجتمع، فهو السادية التي يعاني منها كل من الشاعرين: أبي نواس ونصيب فهما يريدان (يشتهيان) الصغار الضعاف، إذا ما لاقوا جوراً منهما لا يستطيعون المطالبة (يستطفون بحقوقهم (حقوقهن) ولا والي لهم ينتصر لهم ويدافع عنهم، فهما يحسان في داخلهما رغبة للانتقام من هذا المجتمع متمثلاً في النشء الصغار مهضومي الحشا الذين لا يهب أحد لنصرتهم، إنها سادية من الناحية النفسية وانتقام من الناحية الاجتماعية وخروج على الشرائع من الناحية الدينية، وظلم من الناحية القانونية، وخروج على نواميس المجتمع السياسية التي تطالب بالعدالة والمساواة، وخروج على الدين، وخروج على النواميس الاجتماعية، ولماذا كل هذا الخروج؟ الجواب صريح فكلاهما (نصيب وأبو نواس) لا يمتان إلى هذا المجتمع بصلة الأول عبد أسود والثاني فارسي متعصب لفارسيته، وهو يسعى إلى الانتقام من العرب المسلمين في شكل النشء الصغار (جيل المستقبل) لأن العرب المسلمين هم الذين قضوا على الإمبراطورية الفارسية.

المطلع:

يتحدد مفهوم الخطاب منذ البيت الأول: المتكلم /الشاعر والمخاطب/ الشاعر نفسه، فالقارئ للأدب العربي لا يحتاج إلى كبير عناء ليدرك أن المخاطب الذي يتمظهر في كاف الخطاب، هو الشاعر نفسه فتلك طريقة مألوفة في التعبير يصطلح عليها علماء البلاغة بالتجريد.

وفي الشعر خرق للعادة أو انزياح، ونلاحظ بالفعل مظاهر متعددة للخرق:

- هجرتك/ لم تهجرك.

- وصل الخمرة يخرق الهجران الذي كان الشاعر ضحية له من طرف أروى.

- خرق اللغة العادية بإسناد الوصل (لم تهجر) إلى الخمرة أي الانتقال من الحقيقة إلى المجاز.

- خلو المطلع من التصريع، خرق لتقليد شعري سائد.

- البيت من البحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعول) على مستوى الإيقاع، ورد فيه زمانان:

مفاعلتن الثانية في الشطرين الأول والثاني، غير أن الخرق الأهم على هذا المستوى يتمثل في وتيرة الإيقاع إذ نلاحظ بطئاً واضحاً في الشطر الثاني عند مقارنته بالشطر الأول وذلك بسبب المد من جهة، وبسبب النبر الذي يحتمل أن يكون وقع على المقطع (صا) في صافية.

- جاء الكلام في صيغة الخبر، غير أن الغرض منه، هنا، يخالف الأغراض الأصلية للخبر، والخلاصة الأساسية الممكن استخلاصها من هذا الابتداء، والتي تنعكس على القصيدة وتتحكم فيها هي المقابلة الآتية:

لا وفاء لأروى/ إخلاص الخمرة

ولكن من أروى هاته؟ القصيدة لا تذكر شيئاً عنها سوى أنها هجرت بعد الوصل، وحين ننقب في المصادر التي تتحدث عن حياة أبي نواس لا نجد لها ذكراً، غير أننا ندرك أنه اسم علم عربي، وقد كانت تحمله إحدى جدات الرسول (ص)، ويبدو أن وروده في مطلع القصيدة لم يكن بسبب تقليد معين بل لدلالة رمزية أساسية. وإن المقابلة: الخمرة/ أروى التي استخلصناها آنفاً تساعدنا على تحديد الخطوط العامة لهذه الدلالة الرمز:

أروى                           الخمرة

المرأة-الجنس-اللذة            الشراب-اللذة

المشروعية-التقاليد-الحلال    عدم المشروعية-التمرد على التقاليد والأعراف-الحرام

قيم اجتماعية سائدة           تمرد على قيم اجتماعية سائدة

نخلص من ذلك كله بنتيجة أساسية، هي أن الخرق الذي اتخذ أشكالاً مختلفة في البيت: لغوية، بلاغية، إيقاعية، يكتسب في النهاية دلالة أوسع وأشمل ألا وهي: خرق لنظام اجتماعي ثقافي معين.

وعلى مستوى رمزية الصوت نلاحظ تقارباً بين (الهجر) التي وردت مرتين و(الجهر) المعروف. في هذا الصدد يتحدث ابن جني كثيراً في كتابه الخصائص عن تقارب الحروف لتقارب المعاني، وتقول بعض الدراسات الحديثة كلما تشابهت البنية اللغوية فإنها تعكس بنية نفسية متشابهة منسجمة، ألا يمكن أن نقول إن الشاعر المهجور يجهر بموقفه المتمرد؟ ومما يدعم هذا الرأي ورود حرف الراء المجهور أربع مرات في البيت إحداها في الروي. وقفنا هذه الوقفة الطويلة عند المطلع لأنه بمثابة المفتاح للولوج إلى القصيدة، وأول ما يقرع السمع وبه يستدل الشاعر على ما عنده، كما يقول ابن رشيق.

القصيدة: وتستوقفنا في بداية البيت الثاني عبارة فخذها، فإذا كانت أداة الربط الفاء تفيد الاستئناف نحوياً فإنها عند اتصالها بفعل الأمر هنا، تفيد أكثر من ذلك، فالملاحظ أن الضمير (ها) لا يفصله عن المذكور المتقدم سوى الربط والفعل: صافية عقار (فخذ)ها وهذا التجاور لـه دلالته فكأنه يحث نفسه على تناولها، وعلى مستوى أول، يظهر للقارئ أن الشاعر أسند إلى الخمرة مجموعة من الصفات في الأبيات (2-6)، فهي مستخلصة من الكروم ويبدو ذلك من سمات الجودة، وهي خالصة صافية، يعلوها احمرار، وتتوالد منها فقاقيع عند مزجها بالماء، وهي شراب منحته الشمس نصاعتها ونورها، لم يطبخ في قدر ولم يشو بنار، كريمة راقية عاقرها ملوك الفرس العظام، جيدة تشفي المخمور من ألم الخمار.

والملاحظ، إنه إذا كان هذا الوصف يشمل أحوالاً مختلفةً للخمرة فإن القاموس الشعري (المعاني والصور) يكاد يخلو من الجديد، فبعضها طرق من قبل أبي نواس ومن طرف عدي بن زيد والأعشى والبعض الآخر تردد في قصائد أخرى للشاعر نفسه، ويبدو أن الخواطر التي تبعث عليها اللحظة الحاضرة والترسبات الوجدانية والثقافية تشكل مادة هذه المعاني والصور فتتدفق عن طريق التداعي في بساطة ورقة، ولا يكلف الشاعر نفسه عناءاً كبيراً في توليدها.

ونلاحظ حضور ثنائية ضدية في القصيدة (أروى/الخمرة) ويبدو هذا الحضور قوياً على الخصوص في الامتداد الرمزي المحوري لهذه الثنائية: فالأبيات تتضمن عناصر ومؤشرات تمكننا من إسقاط بعض صفات الخمرة على المرأة، لأن الغاية المنشودة لكليهما واحدة: اللذة والمتعة.

- فهي من بنات الكرم. لم لا نجوز بنات الكرم، فالدراسات الحديثة تولي أهمية لهذا اللعب اللغوي.

- تكون لها درر، والدرر واللآلئ أشياء تقترن بالنساء خاصة، يتباهين بها، وما زلنا نقول عن المرأة درة مكنونة، وجوهرة مصونة.

- والطبيخ يتصل بالمرأة لأنها عادة هي التي تطبخ الطعام وتهيئه.

- وتتسع الدائرة الرمزية في البيت الخامس، فما علاقة الخمرة بكسرى أني شروان؟ قد نعثر على الجواب حين نتذكر أن من محاسن المرأة حين تنتسب إلى أسرة ذات مكانة رفيعة، والنسب يلعب دوراً هاماً في المجتمع العربي التقليدي، وأبو نواس يعاني من انحطاط نسبه، فيبرز ما هو محروم منه، هذا بالإضافة إلى أن الإحالة إلى كسرى (الفرس) يرتبط بنسبه من جهة ويقف ضد المجتمع العربي الإسلامي من جهة أخرى.

وبعد أن يصل الشاعر درجة النشوة في نهاية البيت السادس يريد تتويج النشوة بالغناء، وبيتا الغناء يمثلان وصفاً حياً لمفعول الخمرة، والملاحظة التي يمكن تسجيلها في هذا الصدد تتمثل في الشكل العام للقصيدة كخطاب، ففي الأبيات السابقة يحكي الشاعر، بينما نراه في الأبيات الثلاثة الأخيرة لا يكتفي بالحكي بل ينقل حالة حاضرة بأجوائها وإيحاءاتها المختلفة، ويمكن اعتبار الشطر الأول من البيت السابع جسراً بين الحالة الأولى والحالة الثانية:

المتكلم                      الخطاب                                المخاطب

1-الشاعر        الأبيات 1-6+ الشطر الثاني7       الشاعر نفسهÙحكي في شكل مونولوج

2-الشاعر                 الشطر الأول 7                        المغني

3-الشاعر(المغني. نصيب)    بيتا نصيب                          الشاعر

وإذا كان فعلاً الأمر (هات) اسم فعل أمر و(غنني) يساعدان على الإحالة على جو حاضر، عناصره الشاعر الذي أخذ منه السكر فأخذه الغناء والقدح المدار فإن الكلمة المحورية تتمثل في (وافاني) وقد شرحت في الديوان بمعنى (أدركه)، غير أن معناها في المعجم إعطاه حقه تماماً، والمعنيان يتكاملان في سياق القصيدة، ونلاحظ محوريتها من خلال بعض السمات الصوتية والإيقاعية التي تميزت بها، فالجهر غالب على حروفها بالإضافة إلى الرخاوة والليونة، وهاتان السمتان تتلاءمان مع حال الخمر، ومن جهة أخرى نلاحظ بطئاً في الإيقاع بسبب امتداد الصوت والنفس (وَا-فَا) مما يجعل الكلمة تستغرق زمناً أطول.

الثنائية في القصيدة: (1) ثنائية السلب والإيجاب:

تبدأ القصيدة بمطلع مألوف عند أبي نواس، حيث الدعوة إلى تجاوز البكاء أو الوقوف على الطلل ورفض الاستسلام للحبيبة أو التألم لهجرانها، حيث البديل متمثل دوماً بمعشوقته: الخمرة

وعجت أسأل عن خمارة البلد

عاج الشقي على رسم يسائله

وأشرب على الورد من حمراء كالورد

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند

وما أن سبتني زينب وكعوب

دع الربع ما للربع فيك نصيب

لمثلي، على طول السنين، سلوب

ولكن سبتني البابلية إنها

إن إبعاد هذا التعارض نجد أساسه في التعارض السياسي والحضاري والاجتماعي والثقافي الذي يحمله الواقع نفسه آنذاك.

وإذا عدنا إلى القصيدة نجد التقابل بارزاً بين (أروى) الحبيبة الهاجرة، وبين الخمرة الصافية، يبدو من خلال تركيب شطري البيت الأول أن: الجملة الأولى (لئن هجرتك) جملة مثبتة وبالتالي فهي إيجابية، والجملة الثانية (فلم تهجرك) جملة منفية، وبالتالي فهي سلبية.

ولكن المسألة ستنقلب حينما نمعن في معجم البيت نفسه حيث نجد السلب في الشطر الأول (هجرتك) كفعل يدل على معنى الهجر وهو أمر مرفوض ومؤلم ومحزن وبالتالي فهو سلبي، خاصة وقد أتى بعده ما يقابله ويناقضه ويذكر به (الوصل).

وينقلب معنى الهجر في الشطر الثاني (فلم تهجرك) إلى عكسه بفضل دخول حرف الجزم والقلب (لم) ويصبح مؤدى الفعل هو الوصل والائتلاف واستمرار العلاقة الحميمة وبالتالي الإيجاب. ويتأكد هذا الإيجاب بما يأتي بعد الفعل من صفات: صافية وعقار، وقد استعاض الشاعر بالصفة بدل الموصوف، أي الخمرة، لرسوخ صورة الخمرة وصفاتها في نفس الشاعر.

ويقدم البيت تقابلاً آخر بين زمني الفعلين: هجرتك/ لم تهجرك، يمكن القول نحوياً بأن الفعلين معاً يؤديان نفس المعنى ويرمزان لنفس الزمن (على اعتبار المضارع المجزوم يصبح بمثابة الماضي). لكن السياق يفرق غير ذلك. إذ يحتفظ المضارع براهنيته بل وباستمراره مقابل انتهاء وانقضاء (هجرتك) في الزمن الماضي، وهو ما أراد الشاعر إبرازه من ضرورة اعتبار هجر الحبيبة أمراً منقضياً ومنتهياً ويجب نفض اليد منه، والالتفات إلى الحبيبة الأخرى التي لم و (لن) تهجر. ومما يؤكد ذلك أن هذه الحركة الثنائية (ماض/ حاضر) ستصبح ثلاثية مع بداية البيت الثاني الذي يستهل بفعل آخر (فخذها)، فنصبح أمام ثلاثة أفعال متتالية يدل تدرجها في الزمن على تدرج نفسي يعكسه تدرج زمني: (هجرتك) الماضي المنتهي، (لم تهجرك) المضارع وتأكيد الحضور، (فخذها) الأمر، والمرور إلى الفعل، إلى  التجاوز إن ثنائية السلب والإيجاب سرعان ما سيختل التوازن بين طرفيها ليقتصر الثاني على الأول خاصة مع بداية فعل التجاور.

ولا يقف التضاد بين السلبية والإيجابية عند هذا الحد، فإذا كانت المرأة تسلم حبيبها إلى الفراق ينشب فيه براثنه، فإن الخمرة لا تدع عاشقها عرضة لهذا الألم بل تطرده ولا تدع له أثراً في الجسم.

تطاير من مفاصله الخمار

إذا المخمور باكرها ثلاثاً

ونصبح أمام ذات إيجابية، وبذلك نكون أمام ثنائية أخرى تقوم على الضدية:

(المرأة-سلب-/ الخمرة-إيجاب)

وتنعكس سلبية المرأة وإيجابية الخمرة على الفضاء الزماني والمكاني للقصيدة حيث تشغل المرأة مساحة ضيقة على مستوى المكان، إذ لا تتعدى شطر البيت، ومن ثم يكون زمن التلفظ قليلاً، أما المساحة التي تشغلها الخمرة، فهي كثيرة تبدأ في الشطر الثاني من البيت الأول وتنتهي مع نهاية البيت السادس كما أن زمان المرأة في القصيدة لا يتعدى ثلاث تفعيلات من بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعول). في حين نجد زمان الخمرة يفوق ذلك بكثير، ويظهر من خلال ذلك أن الشاعر ينقل المرأة إلى حيز هامشي ليمنح لباب القصيدة وفضاءها الواسع للبديل الخمرة. ومما يدلل على هامشية المرأة وأهمية الخمرة، فهو عندما يذكر الأولى، يذكرها علماً مجهولاً خالياً من صفات الجمال والآبهة:

أنو شروان تتجر التجار

على أمثالها كانت لكسرى

ويظهر جسد المرأة مرة في مطلع القصيدة ثم يعفو ويندثر فلا يعود إلى الظهور، لتحتل الخمرة ما بقي من جسد القصيدة وهو فضاؤها الرئيسي لتبرز في صور تراكمية، أليس هذا دليلاً واضحاً على مكان الخمرة وحضورها الكلي في وعي الشاعر وغياب المرأة عن هذا الوعي؟ فعندما تحدث أرسطو عن عوامل تداعي المعاني ذكر من بينها التشابه والتضاد، أي أن الشخص يستدعي الفكرة لأنها متشابهة أو مضادة للفكرة السابقة، ألا يمكن أن نقول بناء على ذلك، بأن أبا نواس عندما استحضر تجربة المرأة (الوصل والهجر) أحدث في كيانه اضطراباً وأفقدته صوابه وحاول أن يصرف عنه بسرعة هذا الطارق وأن يتناسى الفشل فاستدعى ما يشبه هذه الفكرة وما يضادها في الوقت نفسه ليعوض بها عما أمضه من أفكار وذكريات، فعنصر الشبه، بين المرأة والخمرة، أنهما من جنس واحد هو التأنيث، أما عنصر التناقض فهو أن المرأة تمتع وتؤلم (تصل وتهجر) والخمرة تمتع ولا تؤلم (تصل ولا تهجر)، ونستنتج من ذلك أن المرأة عند أبي نواس جنس غائب بينما الخمرة عنده جنس حاضر. لذا آثر الحاضر وأحبه معرضاً عن الغائب الذي لا يستمر على حال.

2-ثنائية الحضور والغياب: لم يصرح أبو نواس بالخمرة، وأناب عن ذكرها الآليات والصفات كما مرّ بنا سابقاً-والضمير الهاء، فضلاً عن طقوسها ومفعولها، كل ذلك يعد أقوى من ذكر المفردة ذاتها ومن هنا تشكلت لدينا ثنائية: الحضور/ الغياب. وبنية الغياب، في هذه الحال تكون ذات أهمية قد لا تقل عما يكون لبنية الحضور، والبيت الأول في القصيدة هو المحور والأبيات الأخرى شرح وتفسير لهذا البيت المحور، ويشكل الشطر الأول من البيت (بنية توتر) ويشكل الشطر الثاني (بنية الانفتاح والانفراج) فالبنية الأولى تؤكدها الثنائية الضدية في لفظتي: هجر/ وصل (السلبي في مقابل الإيجابي) وهي تقابل زمنياً (الآن/ أمس)، والبنية الثانية يؤكدها الشطر الثاني، إذا اجتمعت أداة النفي (لم) وهي السلب الأول وفعل (تهجر) وهي السلب الثاني، واجتماع السلبين يعطي الإيجاب، ويمثل الشطر الثاني الدعوة للخروج من حالة السلب والتوتر إلى حالة الإيجاب والانفراج بعد الضيق والشدة.

تتوزع النص ثلاثة ضمائر منها ما يخص الخمرة ومعظمه ضمير غيبة (فخذها، شراباً إن تزاوجه، باكرها، ومنها ما يخص مخاطب أبي نواس (هجرتك، تهجرك، فخذها). والملاحظ أن الضمائر الخاصة بالخمرة والمخاطب استغرقت الأبيات الستة الأولى، في حين أن صوت الشاعر (ضميره) لم يظهر إلا في البيت السابع (وهات فغنني)، فكيف تم هذا الانتقال من المخاطب إلى المتكلم؟ وبما يبرر هذا الانتقال؟ ليست هناك قرينة لفظية تدل على هذا الانتقال من صوت المخاطب إلى صوت المتكلم، مما يتيح لنا القول بتوحد الضميرين أو الصوتين ليصيرا معاً صوت أبي نواس، ولكننا إذا سلمنا أن المتكلم (أبو نواس) لا يطلب الغناء من مخاطبه بل يطلبه من الجواري لأن القدح وافاه والنشوة اكتملت لديه، ندرك إذ ذاك أن المخاطب الذي أوهمنا به أبو نواس في الأبيات السابقة ليس سوى أبي نواس ذاته، فهو الذي هجرته أروى، ويعزي نفسه ويسليها بالانصراف إلى الخمرة، وبذلك نظفر بثنائية جديدة هذه المرة على مستوى الضمير: أنا/ أنت، والتي تستحيل في نهاية الأمر إلى التوحد والانصهار في ضمير واحد هو (أنا)، وبذلك نلاحظ أن ثنائية (الحضور/ الغياب) المتعلقة بالخمرة قد استحالت إلى حضور، في حين استحالت ثنائية (أنا/ أنت) إلى صوت واحد هو (أنا) وبذلك يحل الحضور في الأنا وتحل الأنا في الحضور وهذا الحلول هو الذي يعطينا النتيجة التالية (أنا المخمور). ولا عجب أن يكون أبو نواس هو المعني في النص أي هو المخمور، ففي عالم الخمرة تتحقق ذاته فهي بمثابة ينبوع التحولات التي تتقمص الشكل الذي يتطلع إليه هوى الشاعر وجموح خياله، وهذا التحول وجموح الخيال نجد الشاعر قد مارسه على تشكيل وحدات النص سواء من خلال لعبة الضمير وتحولاته التي مرت معنا أو من خلال المعجم الذي عبر فيه الغياب عن الحضور حتى انصهر الأول في الثاني، أو من خلال التركيب الذي يهيمن فيه الأسلوب الإنشائي بشكل ملفت للانتباه، فما دلالة هيمنته وسيادته؟ الدلالة الأولى جمالية والدلالة الثانية وظيفية، وكلتاهما تهدفان إلى خلق التواصل مع المتلقي والتفاعل معه، فقد ساعد الأسلوب الإنشائي للنص، من حيث الدلالة الأولى، على الخروج من التقرير الاعتيادي الذي يفقده شعريته إلى أسلوب تعالقي يضفي على النص سمته الشعرية، فقد تمكنت هذه الدلالة الجمالية أن تجذب إليها المتلقي وتحدث معه تواصلاً وذلك عن طريق ما يمكن تسميته (أفق الانتظار المفتوح) ذلك أن أسلوب الشرط الذي يغطي جزءاً هاماً من فضاء النص يثير في المتلقي رغبة معرفة جوابه، كيف ستكون:

-لئن هجرتك فلم تهجرك.

-شراباً إن تزاوجه بماء تولد منهما.

إذا المخمور باكرها ثلاثاً تطاير عن مفاصله الخمار

-لولا أن يقال لقلت.

فهناك دائماً فجوة أو أفق انتظار مفتوح ينبغي ملؤه.

أما من حيث الدلالة الثانية الدلالة الوظيفية الإيحائية- فيمكن أن نستمدها من الأسلوب الإنشائي في البيتين الثالث والسادس، يقول في البيت الثالث:

تولد منهما درر كبار

شراباً إن تزاوجه بماء

فقيمة أسلوب الشرط هنا ليست جمالية فحسب بل وظيفية كذلك، ويظهر ذلك من حيث أن الأسلوب دعوة غير مباشرة إلى عدم مزج الخمرة بالماء لأنها جوهر وروح، فلا ينبغي مزج ما هو جوهر بما هو عرض لأن في ذلك قتل للجوهر أي الخمرة، فالدرر الكبار المتولدة عن عملية المزج لا ينبغي قراءتها قراءة إيجابية، بدليل أن البيت الرابع، تصريح بأن ما هو روح أي الخمرة لا ينبغي أن يختلط بما هو عرض (ماء أو نار) وبالتالي فإن طقوس الخمرة التي جرت بها العادة تنأى عن مزج الخمرة بالماء لأن في ذلك قتلاً لها كما يقول الأعشى في هذا الصدد:

قتلتْ، قتلتَ فهاتها لم تقتل

إن التي ناولتني فرددتها

ويقول أبو نواس في البيت السادس:

تطاير عن مفاصله الخمار

إذا المخمور باكرها ثلاثاً

وهو يقوم على أسلوب إنشائي أيضاً، دعامته الشرط وجوابه، ويمكن القول بأن قيمته الجمالية تكمن في أنه أوجز وكثف، وتكمن قيمته الثانية في أنه يكشف عن طقس من طقوس الخمرة وبالتالي فهو تأكيد لجوهر الخمرة التي حاولنا تلمسها في البيت الثالث، فهذا الجوهر الذي ينأى عن أن يمتزج بما هو عرضي، يبدو في هذا البيت هو العلة في الخمار، وهو ذاته العلة في إزالة ورفع ونسخ هذا الخمار، فمن يقوى على الفعل وضده إلا من كان سبباً لذاته ومن أجل ذاته.

3-ثنائية التوتر والهدوء: إذا تأملنا الأبيات من (1-6) نجد حركتها تسير من توتر قوي إلى هدوء ثم إلى توتر أقل قوة، حيث نجد في البيتين الأول والثاني انكساراً قوياً وصراعاً عنيفاً بين تجربتين تجربة المرأة وتجربة الخمرة، ولهذا تداخلت المرأة مع الخمرة، فأصبحنا أمام ذات الشاعر وذات الخمرة البديل (الشاعر/ الخمرة)، ويمكننا أن نرجع سبب إضفاء صفة المرأة على الخمرة إلى كون الشاعر قد تذكر تجربته الفاشلة مع المرأة فأحدث ذلك في كيانه خلخلة واضطراباً أفقده وعيه فلجأ مباشرة إلى الخمرة، ليضفي عليها صفة الأنوثة، ولكن بعد أن استعاد وعيه عاد إلى وصف الخمرة مجردة من كل تداخل، وهذا ما نلاحظه في البيتين الثالث والرابع، اللذين يذكر فيهما نوعية الخمرة وصفاتها الطبيعية، ويعود التوتر ولكن بشكل أخف في البيتين الخامس والسادس عندما تتداخل الخمرة ثانية بالمرأة (أمثالها، كانت، باكرها، وتتولد عن هذه الحالة ثنائية التوتر/ الهدوء، فالشاعر يتأرجح بين التوتر والهدوء، ولهذا التعبير دلالته الأيقونية، فهو أشبه بحالة المخمور الذي يفقد وعيه وتتداخل لديه الحالات والعناصر وبذلك يخرق العرف اللغوي والتعبير العادي، وهذا ما لاحظناه في الأبيات (1، 2، 5، 6) حين خلع صفة الأنوثة على الخمرة وخاطب ذاته على أن تعدل عن المرأة إلى الخمرة الفاتنة.

تعدد الأصوات: كنا في الأبيات الستة الأولى مع الشاعر وحده ننصت إلى تجاربه ونغماته، ثم تتداخل الأصوات، ونصبح أمام بيتين لشاعر آخر ضمنهما أبو نواس قصيدته هذه، وبذا امتص نصاً آخر، فأصبح يوافق مقصدية الشاعر وينسجم مع رؤيته السابقة، ويظهر من القراءة الأولى للبيتين أنهما يشيران إلى الأنثى، فهل عاد الشاعر مرة أخرى إلى التجربة التي تخلص منها في بداية القصيدة وظلت غائبة على طول الفضاء، فعلام يدل حضور الأنثى مرة أخرى؟ هل الخمرة هي الأخرى لم تحقق للشاعر ما كان ينشده منها؟. قد يكون هذا احتمالاً، فقد أحس الشاعر بأن الخمرة تحقق له رغبته الجنسية والعاطفية بعد أن بلغ في ارتوائه قمة النشوة. فالشاعر مكره إذن على أن يعود إلى الأنثى لأنه بحاجة إليها، ولكنها هذه المرة، ليست تلك المرأة الخائنة التي ذاق منها مرارة الهجر والفراق، بل يعود إلى أنثى يختار منها الطهارة والبراءة، فأين توجد هذه الصفات؟ إنها تتمثل في نظر الشاعر بالنشء الصغار، ولكم تمنى أن يعود إلى ذلك ويغذيه بنفسه ولكن خشي أن يوصم بالصبوة، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن هذه العودة تهدف إلى جنس المرأة بعينه، بل هناك تداخل بين المرأة والخمرة (بنفسي كل مهضوم حشاها) فهذا البيت يحتوي على تورية، تمتاز بالتعمية والمغالطة وعدم الإبانة، فلا تدري أهي الفتاة الصبية أم الخمرة، فهما تتداخلان معاً، لتصبح الفتاة المشتهاة هي الخمرة بالتالي ونستدل على ذلك بقوله (إذا ظلمت فليس لها انتصار) أليست المظلومة هي الخمرة المطهوة بأشعة الشمس والمحبوسة في الأزقة لغرض تعتيقها، والكل يعمل من أجل ذلك ولا يخلصها أحد من سجنها هذا، إذ كلما طال أمد سجنها ازدادت جودة ولذة.

مستوى الإضمار: الفحص المتأني والمفتت للآليات التي تتحكم في النص، يظهره كخانة اجتمعت فيها كل أسباب المتعة من خمر ونساء وغناء، وشاهد عيان نطق بلسان هذا الجو بصفته شريكاً في العملية. وأول ما يشد الذهن هو هذه الحركة الدائرة التي تحكم بنية النص بوصفه وحدات ثلاث: خمر ونساء وغناء، بصفتها السطح الذي يغطي الوحدة الرابعة التي لا تدل على نفسها وإنما تظل حاضرة طوال الوقت، وهي وحدة المتكلم أو الشاعر، وتشكل هذه الوحدات الأربع، بنية واحدة دائرية لا يمكن فهم إحداها إلا باستحضار الأخريات.

تشكل المرأة بالنسبة للنص البداية والنهاية، إذ هي أول من يطل من كوة النص وآخر من يسدل الستار خلفه، أما الخمرة فالقصيدة تدور حولها، ولم ترد المرأة في الشطر الأول إلاّ مدخلاً لعالمها والبيت الأخير حديث عن المرأة والخمرة في الوقت نفسه، أما وحدة الغناء فلم تقتصر على بيتي نصيب فقط، بل إن القطعة برمتها مقطوعة موسيقية وضعت لتنشد وتغنى، لا لتحفظ في الصدور كما يتأكد حضور الشاعر في كل لفظة من القصيدة حتى في بيتي نصيب. بل إن استعمال ضمير المخاطب كقوله (لئن هجرتك) يجعلك تدخل في لعبة الخطاب لتصبح جزءاً منه، وأول إحساس تبثه القطعة في القارئ، هو أنها لا يمكن تحليلها ما لم نستحضر الجو الخمري الذي تتحدث عنه، حيث يبدو النص كأس خمر، وكل بيت رشفة منه، ومثلما يتريث الشارب بين رشفة وأخرى، يجد القارئ نفسه ملزماً بتأمل كل بيت قبل أن يجتازه إلى البيت الذي يليه، ونحس مع القراءة بسريان المتعة في نفوسنا كما يحس الشارب بدبيب الخمر في جسده، ونخشى نهاية القطعة كما يخشى الشارب فراغ كأسه وتشعرك القصيدة بما يشعرك به الكأس، فما أن تنتهي منه حتى ترغب في معاودته. وهذا الأمر تحكمه الحركة الدائرية في النص، بحيث لا تجعلنا نحس بالنهاية ولا البداية، فالجسم استحال إلى امتداد متواصل لاستقبال النبيذ، وتتهيأ الأذن لتتيح للموسيقى النفاذ إلى أعماق النفس، ويمتد البصر ليحوز أكبر صورة من هذا الجو، هذه اللحظة الحاسمة في القصيدة تربط قول أبي نواس بما قاله غيره، فيتحقق الربط بين قناتين: أذن/ موسيقى، فم/ خمرة، عين/ ساقي ومغن، إنها اللحظة التي تسبق الالتحام، التحام الروح بالجسد، الخارج بالداخل، لحظة تتحقق فيها جميع الرغبات في تزامن وانسجام.

واسم (نصيب) لا يستدعي في النفس اسم الشاعر الإسلامي بقدر ما يوحي بالقسمة العادلة التي تحققت لجسم وروح، فيتحدث بيتاه عن انتصار للعدل، وهذا العدل ينهض في هيكل القصيدة، وينبثق من لفظها، وهو الغائب عن الحياة النواسية، وغيابه هو الداعي إلى بناء هذه القصيدة، أليس جور المرأة الهاجرة هو الذي دفعه إلى الخمرة وإلى التعبير عن هذا الجور، وكلا الشاعرين عانا من الحيف الاجتماعي، فعبرا عنه بطريقة فنية، يبحث أبو نواس عن توازن لنفسيته عند النساء فلم يجده ويعاني نصيب أكثر مما يعاني أبو نواس، إذ لاحق له في العدل وهو عبد، وتحقيقه للعدل يجر عليه أقاويل الناس بالصبوة، وكله انحراف عما رسمه المجتمع، هذا بالإضافة إلى أن كليهما يحسان بالاغتراب، فهما في بيئة غير بيئتيهما، لا تحقق لهما الانسجام والطموح والرغبة في معايشتها.

الموسيقى الشعرية:

تتحدد هوية القصيدة العروضية في البحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعول) في كل شطر. والسؤال الذي يفرض نفسه في البداية، ما العلاقة بين البحر وغرض القصيدة ومستواها الدلالي؟

تتمثل هذه المشكلة النقدية بين موسيقى الشعر ومعناه، وبعض النقاد القدامى والمعاصرين لاحظوا هذا الارتباط بين العنصرين، غير أن الذي ربط بين موسيقى الشعر ومعناه حازم القرطاجني، حين حدد لبعض البحور أغراضاً معينة، ولن ندخل في هذه القضية، ونركز على ملاحظة أساسية هي أن البحور عبارة عن أشكال عروضية، وبالتالي فإن بحوراً كثيرة تصلح لأغراض متعددة، والبحر الواحد يصلح لأن يستعمل لأغراض مختلفة ومتباينة، والكثير من القصائد الشعرية يثبت ذلك، وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فلا داعي إلى الجزم بأن البحر الوافر يناسب غرض الشاعر ومعنى القصيدة.

يتكون البحر من ثلاثة تفعيلات تطرح مسألتي التكرار والتنوع على المستوى الموسيقي، فهناك تفعيلتان متماثلتان، تخالفهما التفعيلة الثالثة، ولا شك أن ذلك يخفف من رتابة الإيقاع ووتيرته الواحدة، وعلى الرغم من أن التفاعيل المتشابهة لا تؤدي بالضرورة إلى إيقاع موسيقي رتيب، تبقى ملاحظة تتعلق بالبحر الوافر، هي أنه من البحور التي يفضلها النقاد إلى جانب الطويل والبسيط والكامل والخفيف نظراً لاعتبارات عدة.

وتتكون المقطوعة من ست وثلاثين تفعيلة من (مفاعلتن) في مقابل ثماني عشرة تفعيلة من (فعولن) وهذا هو الإطار الذي تصب فيه الألفاظ والمعاني المكونة للقصيدة، وحتى البحر بصفته مكوناً من تفعيلتين مختلفتين يوحي بالاختلاف والتباين في العواطف التي يشكو منها الشاعر، ونحن لا نعني بهذا أن الشاعر قد اختار البحر الذي يجعله إطاراً لإبداعه، وإنما نشير إلى التكامل الحاصل ما بين الإطار الخارجي وبين الإطار الداخلي الذي يتوزع بين الألفاظ والمعاني.

أما قافية القصيدة فرائية، والراء من الحروف المجهورة، وقد يطرح التساؤل عن مدى ملاءمتها لغرض تشكل اللذة إحدى خصائصه، وبالتالي فإن الحروف المهموسة تبدو أقرب إلى طبيعته، والراء هي الحرف أو الصوت المركز في القصيدة، وعملية إحصائية بسيطة تؤكد ذلك، تكرر حرف الراء في البيت الأول 4 مرات، وكذلك في الأبيات الثاني والثالث والخامس والسادس، وتكرر مرتين في البيت الرابع، وجاء مرة واحدة في الأبيات السابع والثامن والتاسع، ومعنى ذلك أن عدد تكرار الراء يبلغ ثلاثاً وعشرين مرة، فيتكرر صوت الراء بشكل ملفت للنظر بالإضافة إلى كونه قافية القصيدة. وإذا كانت قواعد الشعر تحتم تكرار القافية، فإن ذلك ليس مطروحاً بالنسبة لباقي أبياتها، والملاحظ أنه سرعان ما يتخلى عن سلطته الفنية في الأبيات الثلاثة الأخيرة لفائدة حروف أخرى أغلبها مهموسة، ولكن لا بد من التأكيد أن بيتين منها للشاعر نصيب، وهناك أصوات أخرى تتكرر بشكل ملفت أيضاً، لكنه أقل إثارة من الراء كاللام وبعض الحروف المهموسة.

ونلاحظ أن أربعة عشر شطراً من مجموع ثمانية عشر شطر تأتي القافية مردفة بألف لازمة، ورويها راء مضمومة، والمقطوعة غير مصرعة، وإيقاع البيت قبل أن تفرغ شحنته تتصدى له ألف التأسيس فتكون بذلك صخرة تتجمع حولها كل ما في قرارة نفس الشاعر، وليبث بعده في انسياب يظل ممدوداً مع الروي الذي هو حرف جهري ووصله بالواو استمرار لتلك الشحنة ولزخم العواطف التي تتباين وتتعارض في نفس صاحبها.

وتتكون القافية في أغلبها من أسماء، والأسماء بدلالتها على الثبات تشير إلى الهاجس الذي يؤرق الشاعر والصفة التي يبحث عنها، ولما لم يستطع تحقيقها على مستوى الواقع بثها في شعره فخرجت تعبيراً عن كوامنه، فالاستقرار الذي لم يتمتع بصحبته، وفره في قافية أبياته، وإن حاد عن قافية الأسماء فليعوضها بقافية من المصادر، والمصدر لا يحمل في نفسه الحركة، فهو يحمل الحدث فقط دون الزمن.

وإذا تركنا الإطار الخارجي وتسلسللنا مع الألفاظ داخل النص نلاحظ أن المدات تشكل جزءاً هاماً من الإطار الدلالي. خاصة الألف التي تتكرر أكثر من ثلاثين مرة، بينما الواو والياء لم تتكررا إلاّ ثماني مرات. وهذه المدات بالألف التي تكاثرت في القصيدة هي في انتصابها واستقامتها أقدر على رسم الذات المتعاظمة في كبريائها وتحديها، فعوض الاستعطاف الذي كنا ننتظره بعد الشطر الأول من المطلع وجدنا نفساً أبية تتحاشى الخنوع والخضوع وتتنكر للذات برغم اللوعة والاشتياق، وإنما العجز من خليلته قد وجهه نحو رجولته يستنهضها، فظل شامخاً، وما ألف الأرداف إلاّ تذكير وتنبيه يفجر رغبته في الإحساس بالرجولة. ويظهر ذلك في قلة الواوات والياءات التي تدل على فتور العزم فقد تجنبها الشاعر، كما أن خاصية الاستطالة في المدات توحي بفترات الاستراحة وجمع النفس، فتقطع النفس من مد إلى آخر هو تقطع على مستوى آخر، هو مستوى الأفكار والعواطف، أضف إلى ذلك أنها تلعب دور الوقف مع استطالة صوتها كي يفهم السامع ما يلقى إليه، فلو جاءت الأفكار منسابة على وتيرة واحدة لكانت عنواناً على وضوح الرؤية لدى الشاعر وحسمه لمشاكله والاستقرار على رأي معين لكن التوزع الذي خضع له جاء ظاهرياً في النص وما يؤكد قصدية الشاعر الغنائية تركيزه على صوت الراء المتميز بين الرخاوة والشدة، والمتفرد بصفة التكرار الصوتي، وإيراد هذا الصوت في مقاطع وحركات طويلة على امتداد مساحة النص، فإذا لاحظنا في كتب الأخبار أن الإنسان العربي القديم كان مما يستملحه في الجارية المغنية اللثغ أدركنا دلالة صوت الراء، وخاصة إذا نطقتها الجارية ملثوغة أي (غينا) مما يوحي بالمزيد من الدلال والإيقاع البطيء والتأثير التخديري، والنشوة الشعورية واللاشعورية.

ولذا سيطر صوت الراء على فضاء النص وفضاء المجلس في لحظة يكون العقل فيها في حالة غيبوبة تاركاً للعواطف الحرية في التحرك والتصرف والتعبير، ويؤيد هذا الرأي احتمال وقوع النبر القوي على الكلمات التي تحمل حرف الراء وخاصة القافية، وهذا التركيز الصوتي على حرف الراء، وهذا التركيز النبري، أثر على نظام الجملة نفسها في النص فغلب عليه النمط التالي: (فعل+مفعول به+ فاعل). وهو نمط مقتبس من بيتي نصيب، حيث يترك الفاعل دائماً إلى آخر الجملة أو البيت، لينتهي المعنى ويستحوذ على (النبر القوي) وتتصدر في نفس الوقت دلالة السياق.

وتصدم حاستي السمع والبصر حروف توزعت عبر فضاء النص فبالإضافة إلى الراء والألف يتردد حرف الهاء خمس عشرة مرة، وحرف الصاد تسع مرات، وحرف السين خمس مرات. وعلى الرغم من أن حرف النون يتردد أكثر من ثماني عشرة مرة إلاّ أن وظيفته لم تكن لتخدم مقصدية الشاعر ولا المتلقي، بل الذي يخدم رغبة الشاعر في التنفيس والانفراج بعد الضيق والشدة هو حروف الهاء والصاد والسين، ومعظم هذه الحروف مرتبطة بما يدل على هذه الرغبة من التنفيس والانفراج من ضيق الهجر، ويؤكد السياق هذه الرغبة، فقد ورد حرف الهاء غالباً ضميراً عائداً على الخمرة وهي مصدر الانفراج (خذها، يعلوها، أمثالها)، وحرفا الصاد والسين بما أنهما من الحروف المهموسة يخدمان هذه المقصدية، فالهمس خال من الشدة ولا تعقيد فيه، هذا بالإضافة إلى أن الأصوات المشبعة بالمد أغلبها ورد مفتوحاً (صافية، شراباً.. الخ) وهذا الانفتاح دليل على الرغبة في الخروج من حالة التوتر، أما المقاطع التي تتكون منها الوحدات المعجمية للقصيدة، فتنقسم إلى ثلاثة أقسام: طويلة ومتوسطة وقصيرة، والملاحظ هو كثرة المقاطع الطويلة التي تبدو مناسبة للبعد الدلالي للقصيدة، فعالم اللذة ينزع إلى إيقاع بطيء على مستويات عدة، الكلام تجعله الخمرة بطيئاً، والحركات تصبح محدودة متثاقلة، ويتحرر الإنسان من هوية الزمان الذي يأخذ شكلاً مطلقاً لا نهائياً، والسهر يمتد إلى الصباح، كل هذه العوامل والعناصر تخضع لمد على مستوى الواقع، فلا غرابة إذن إذا وجدنا مداً على مستوى اللغة الشعرية.

إلاّ أن هذا الربط قد يفقد مشروعيته لأن بعض القصائد الشعرية التي تتخذ عوالم اللذة موضوعاً لها قد تسيطر عليها مقاطع غير طويلة، ومع ذلك فإن القصيدة التي بين أيدينا تعكس الفكرة السابقة إلى حد كبير نظراً لعدة عوامل، أهمها: إنه يؤكد بداية شرب الخمرة، ويتضمن دعوة للغناء وهو طقس مصاحب لها. ويتضمن البيت مقاطع طويلة من خلال الكلمات التالية: (هات، فغنني، وافاني، المدار) ولا شك أن الإنشاد لو تم عن طريق الشاعر فسيمنح البيت إيقاعاً بطيئاً خصوصاً وأن الدلالة التي يحيل عليها تفرض ذلك، كما أن التلفظ بالمقطع الطويل يستغرق زمناً أطول من التلفظ بالمقطع المتوسط أو القصير، وقد يعترض على تأويل المقاطع الطويلة بدعوى أن وجودها اعتباطي ومحايد، والجواب على ذلك هو أن الخطاب الشعري على الرغم من خرقه الدلالي واللغوي والصرفي، تحكمه قوانين عروضية وغير عروضية، ووظيفة التحليل هو الكشف عنها، وتبقى عملية التأويل مشروعة على أساس يستند إلى مؤشرات تدعمه وتكشف عن انسجامه.

وعلى مستوى التركيب، تنقسم الأفعال إلى لازمة ومتعدية ترتبط بالعناصر المشكلة للصورة الشعرية في القصيدة وبشكل خاص بالخمرة، وحضورها متواز ومتعادل تقريباً، وعملية إحصائية بسيطة تؤكد ذلك بجلاء، والملاحظ أن الضمائر في الأفعال كلها متصلة تقريباً، فما هي دلالة ذلك؟

هل يعني اتصالها إحالة على علاقات حميمة مع أشياء وأدوات معينة؟ وهل يعني انفصالها مسافة نفسية تتأسس بين العناصر التي تتكون منها القصيدة؟ قد يكون الجواب الواضح والسهل بأن الضمائر سواء أكانت متصلة أم منفصلة فإنها لا تحيل على دلالة معينة، بل الأمر يفترضه التركيب واللغة، ولكن اتصال الضمائر يحيلنا في القصيدة على علاقة خاصة تربط الشاعر بالخمرة . وإن الأبيات التي تؤكد العنصر الأول قليلة، وذلك راجع لاستعراض أوصافها وتأثيرها في المخمور، ويمكن الاستعانة بمبدأ آخر هو (الاقتراب اهتمام) لتعزيز وتأكيد الفرضية المتعلقة بالضمائر المتصلة التي تحيل على علاقة حميمة بين الشاعر والخمرة، وسنكتفي بالبيت الأول، فالملاحظ أن الشاعر يفصل بين الفعل والفاعل بكلمتين هما (بعد الوصل) فهناك حيز مكاني إذن بين الفعل والفاعل، وهذا يؤكد أن هجر أروى لا يحظى باهتمام خاص من الشاعر ولم يعطه أهمية في البيت وفي كل القصيدة، ويأتي الشطر الثاني على العكس من الشطر الأول، حيث نجد الفعل متلواً بالفاعل مباشرة (فلم تهجرك صافية عقار) وهذا القرب يترجم العلاقة القريبة والحميمة التي تقوم بين
الشاعر والخمرة، وإذا أحدثنا تغييراً في الشطر الأول، فإن المعنى يتغير فلو قلنا (لئن هجرتك أروى بعد الوصل) فإن النتيجة التداولية المترتبة على ذلك ستكون مختلفة وعليه فإن الاقتراب اهتمام ولعل القصيدة تؤكد ذلك، حيث يهتم الشاعر بالخمرة ويهمش المرأة ومن خلال حقلين دلاليين رئيسيين يمكن
استخراجهما من النص، نسجل منذ البداية تقابل الحقلين وتعارضهما، الحقل الأول اروى (المرأة) والثاني الخمرة (صافية عقار)، فأروى تمثل الخيانة منذ البيت الأول بينما تمثل الخمرة في البيت الأول (الوفاء) لم تهجرك و (الصفاء) صرفاً، وفي البيت الثاني تمثل (الأنوثة) بنات الكرم و (الجمال) يعلوها احمرار، وفي البيت الثالث (النفع) شراباً و(الندرة) درر كبار، وفي البيت الرابع (الطبيعة) طبيخ الشمس. وفي البيت الخامس (الرفعة) كسرى أنوشروان، و (القيمة العالية) تتجر التجار، وفي البيت السادس (الدواء) تطاير من مفاصله الخمار، وفي البيت السابع (الغناء والشاعر والمغني والشعر) فغنني بيتي نصيب، وفي البيت الثامن (الفداء) بنفسي، وفي البيت التاسع (الإنصار) إذ اظلمت فليس لها انتصار.

ومن خلال هذه القراءة نخرج بالنتائج التالية:

- الصمت شبه المطلق عن أروى، وبالتالي يبقى الحقل المتعلق بها خالياً أو مقتصراً على صفة واحدة (الهجر بعد الوصل) أي الخيانة.

- الغنى شبه المطلق لحقل الخمرة.

- نخرج بقراءات متعددة نحددها بمستويات ثلاثة:

أ-مستوى المعنى الضمني: تشمل كل لغة عدة أدوات يستعين بها الكاتب لإضفاء الغموض أو افتراض ما لم يعبر عنه صراحة، فغالباً ما يرغب الكاتب في قول أشياء دون تحمل مسؤولية ذلك القول، يريد إبلاغ رسالة، وينفي في الوقت نفسه نية ذلك التبليغ، ونجد في كل مجتمع محرمات لا يجوز التصريح بها، فيلجأ الكاتب إلى حمايتها بالصمت، أي بالقول الصامت.

ب-مستوى المعنى الكامن: هناك معان تنبعث عن اللاوعي دون تدخل إرادة الكاتب أو المتكلم أحياناً، فيرصدها المحلل ويبرزها إلى الوعي في تحليله.

حـ-مستوى المعنى الخفي: تلك المعاني التي لا يحتوي عليها النص الظاهر للخطاب، ونحتاج إلى مفتاح لتأويله خارج النص، كما في نصوص الأساطير.

وهكذا يمكن حصر المعنى الضمني للنصوص من خلال ما يتفرع عنه حقل الخمرة وانطلاقاً من تناقض شطري البيت الأول:

والعقار لم تهجرك الوفاء

أروى الهجر الخيانة

انطلاقاً من هذه المعادلة يمكن تحديد أروى كاسم علم (كرمز) للمرأة داخل المجتمع، يمكن التوصل إلى صفاتها التي لم يبح بها الشاعر صراحة، ولكنه أباح بها ضمنياً من خلال المعادلة المذكورة:

لم تهجرك                        هجرتك

الخمرة                          المرأة

الوفاء                           الخيانة

الصفاء                          الخبث

الأنوثة                          الأنوثة المزورة

الجمال                          القبح

النفعية                          اللانفعية

القيمة                           الرداءة

الطبيعة                          التصنع

السمو                

الندرة                           الابتذال

الدواء                           الداء

الغناء                           الصمت

الفداء                           الأترة

الوجود (الشاعر)                العدم

النصرة                          الخذل

ما أوردناه في حقل المرأة هو ما يريد أن يقوله الشاعر وقد قاله فعلاً بطريقة غير مباشرة، مما يعكس موقفه الضمني من المرأة، بحيث أنه يخفي ما يحسه تجاه المرأة ويقنعه بقناع رمز الخمرة، ويقودنا هذا مباشرة إلى مستوى المعنى الكامن في النص والذي نستنتجه من المستوى السابق الخمرة المرأة.

يزكي لدينا هذه المسألة النموذج التالي: 1-التعبير عن الخمرة بصيغة المؤنث: (عقار، صافية، تهجرك، خذها، بنات الكرم، يعلوها الخ).

2- الحياء كصفة مستحبة في المرأة (يعلوها احمرار).

3- النسب الرفيع: (كسرى أنوشروان).

4- النشوة واللذة الكاملة، كان العرب يصنفون اللذة إلى أربعة أصناف: الشراب، الأكل، الجماع، السماع.

أما مستوى المعنى الخفي فنصل إليه من خلال مفاتيح الكلمات التالية: 1-أروى المجتمع.

2- الهجر        عدم الاعتراف بالوجود (وجود الشاعر).

3- عقار         البديل

يحمل النص دلالة واضحة للعلاقة المتوترة بين الشاعر وأروى التي لا تحمل صفة محددة ولا يحدها حد مما يرجح بأنها رمز للمجتمع حسب الإحالات المتداعية التالية: أروى      الآخر              المجتمع التقاليد             الدين              الثقافة السائدة               الظلم               الخيانة            القيود.

ومن هنا تكتسب أروى شحنتها الرمزية للدلالة على نظام اجتماعي، بما فيه من علاقات اجتماعية فاسدة وجائرة، وتعكس في الوقت نفسه موقف هذا المجتمع من المخاطب (الشاعر) وهو إثبات وجوده في وجود الخمرة، وهكذا تصبح الخمرة مرآة لعالم آخر، هو العالم البديل، أو الحقيقي للواقع الاجتماعي المريض في نظر الشاعر.

معجم النص: نجد في معجم النص، بالإضافة للقاموس الخمري الغالب عليه، حقول دلالية أخرى:

- قاموس عاطفي وجداني: هجرتك، الوصل، أروى، لم تهجرك، صبا، النشء الصغار، مهضوم حشاها، فغنني، وافاني، بنفسي.

- قاموس طبيعي: الكرم، عين الديك، ماء، درر، الشمس، طبيخ، قدر، نار، تلذعه، باكرها.

- قاموس الفرس الثاوي في أعماق الشاعر: كسرى أنو شروان، تتجر التجار.

ومن هذه الحقول الدلالية الأربعة (الخمرة، العاطفية، الطبيعية، الفرس) يتمثل عالم الشاعر المطلق، حيث كل ما عداه مرفوض، وحيث تبرز ذاتية النص بشكل واضح.

ويمثل التضمين جزءاً لا يتجزأ من النص الكامل باعتبار: -أنه غناء أو الكلام المغنى، وبالتالي فهو يرتبط بالبيت الذي قبله (السابع) وهو بمثابة دعوة للغناء يوجهها الشاعر إلى ذاته أو إلى شخص آخر بعد أن وصل قمة نشوته.

-يمثل بيتا نصيب رجوعاً وعودة إلى بداية النص ومنطلقه، أي الحديث عن الصبابة والهوى، غير أنها عودة معكوسة، حيث يختلف البيتان بشكل واضح من حيث المضمون عن مطلع النص، فهما يمثلان تصعيداً يلجأ إليه الشاعر (سواء الشاعر كذات متكلمة، أبو نواس، أو الشاعر الأصلي، نصيب).

حيث احتضان الجواري الصغيرات الرقيقات المغلوبات على أمرهن (على العكس مما بدأ به النص من استخفاف أروى وهجرها) الأمر الذي يصل إلى حد الاستعداء للفداء والتضحية بالنفس لولا مخافة أن يقال: صبا، وصبا كلمة موحية: -الأولى (صبأ) وتعني الخروج والمروق عن المتعارف عليه من تشريع وأعراف وتقاليد، وخاصة وإن العبد (نصيب) لا يحق له أن يجهر بعشقه ولا باستعداده للفداء وهو المملوك.

غير أن المعنى الثاني هو الأرجح، وما توحيه كلمة صبا من ميل إلى جهة الفتوة واللهو من الغزل وهو من التصابي والصبا والصبابة. وما يصدم هذين البيتين كلمات مثل (مهضوم) وما توحيه من معنى الظلم بينما معناها الظاهري، الرقة ودقة الخصر، و (ظلمت، انتصار) وهي كلمات ترمز بشكل غير مباشر إلى واقع استبدادي ظالم عاشته الجواري ذوات الأصول الأجنبية وغيرهن من الموالي عموماً، وما تبني أبو نواس لهذين البيتين إلاّ تأكيد لانتصاره لذوي الأصل غير العربي من الموالي والجواري المضطهدين، مما يؤكد منطلقه الشعوبي الواضح.

تتحدد هوية الزمن النحوي في الماضي والمضارع والأمر، وإحصاء بسيط لنسبة حضورها في القصيدة تفضي إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى: تتمثل في التوازن بين الماضي والمضارع والثانية: الفرق الجوهري بين نسبة حضور الماضي والمضارع من جهة والأمر من جهة أخرى، والذي يقل حضوره بالمقارنة مع الزمنين السابقين.

وقبل تأويل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن البيتين الأولين من القصيدة يتضمنان ترتيباً منطقياً وموضوعياً للزمن النحوي، يطابق تلك القائمة في الواقع الموضوعي ووعي الإنسان. (هجرتك، لم تهجرك، فخذها) هذه الأفعال التي تحيلنا على أزمنة مختلفة: الماضي، المضارع، الأمر، تختزل البعد الدلالي للقصيدة كلها وتختصرها، لأن الأبيات الموالية لها تضيف إليها معاني جديدة، وإذا كانت المرأة ترتبط بالزمن الماضي، فإن الخمرة ترتبط بزمني المضارع والأمر، مما يمنحها استمرارية وتوهجاً، يفعلان في الشاعر ويدمنان الحضور في بنيته النفسية، ولا يهتم الشاعر بالماضي لأنه أفلت من قبضة حياته، ويبقى المضارع والأمر اللذان يحيلاننا على الحاضر والمستقبل وهما اللذان يشكلان لحظة للتملك وممارسة الفعل الاجتماعي، ويضيف الماضي والمضارع على البيت الأول (لئن هجرتك، فلم تهجرك) تنويعاً ويمنحانه جمالية معينة ويكسران رتابة الزمن النحوي الموسيقية.

وهناك فرق أساسي بين الماضي والمضارع من جهة والأمر من جهة أخرى، فإذا كانا يحيلان على عوالم معينة، فإن الأمر أقرب منهما إلى الدعوة لممارسة اللذة، متمثلة في شرب الخمر وسماع الغناء وذلك من خلال البيتين المبتدئين بالأمر: (فخذها وهات) فالعلاقة بين الأمر واللذة أكثر وضوحاً ودلالة من تلك التي تربط بين المضارع والأمر وبينها، بل أن الرغبة في سماع بيتي نصيب مغناة تتم بكيفية مؤكدة، ويمكن الاستعانة بمبدأ الزيادة في المبنى زيادة في المعنى لتأكيد ذلك، ونقتصر على البيت التالي:

فقد وافانيَ القدح المدار

وهات فغنني بيتي نصيب

إن تجاور اسم الفعل (هات) والأمر المقترن بالفاء (فغنني) على مستوى التركيب، يفيد زيادة على مستوى المعنى حتى وإن أولنا هات، بمعنى اعطني العائد على الخمرة، فإن معنى التأكيد على ممارسة اللذة يبقى وارداً.

واستعمل الشاعر معجمه الشعري من وحدات معجمية تنتمي إلى عالم الخمرة كما مر بنا سابقاً- وتتعلق بالعقيدة الإسلامية التي تتخذ موقفاً سلبياً من معانيها، وخاصة (الكرم والتجار، وصبا)، فقد كرّه الرسول (ص) إطلاق اسم الكرم على الخمرة، "قال أبو بكر (رض) يسمى الكرم كرماً لأن الخمر المتخذة منه تحث على السخاء والكرم، وتأمر بمكارم الأخلاق، فاشتقوا له اسماً من الكرم للكرم الذي يتولد منه، فكره النبي (ص) أن يسمي أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرَم، وجعل المؤمن أولى بهذا الاسم الحسن، وأنشد: والخمر مشتقة المعنى من الكرم"، ويرى الزمخشري أن المقصود من موقف الرسول (ص) ليس النهي عن تسميته للكرم عنباً: "أراد أن يقرر ويسدد ما في قوله عز وجل: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، بطريقة أنيقة ومسلك لطيف، وليس الغرض حقيقة للنهي عن تسمية العنب كرماً، ولكن الإشارة إلى أن المسلم التقي جدير بأن لا يشارك فيما سماه الله به، وقوله: فإنها الكرم الرجل المسلم، أي إنما المستحق للاسم المشتق من الكرم الرجل المسلم".

ويتضح إذن أن الكرم كلمة استكرهت من طرف الرسول (ص) وسبب الاستكراه عقائدي لأن الإسلام نص على تحريمها.

أما كلمة (التجار) فهي أيضاً تحيل على ممارسات سلبية لا يقبلها الدين وينهي عنها: "وفي الحديث: إن التجار يدعون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبر وصدق، وقال ابن الأثير: سماهم فجاراً لما في البيع والشراء من الأيمان الكاذبة والغبن والتدليس والربا الذي لا يتحاشاه أكثرهم ولا يفطنون له، ولهذا قال في تمامه إلا من اتقى الله وبر وصدق، وقيل أصل التاجر عندهم الخمار يخصونه به من بيت التجار، ومنه حديث أبي ذر: كنا نتحدث أن التاجر فاجر". ونستنتج من ذلك أن التجار كناس يقومون بعمل معين، يتخذ الإسلام منهم موقفاً سلبياً في حالة انحراف هذا العمل عن المنحى الأخلاقي والعقائدي، لذلك فالجزاء الأخروي الذي ينتظرهم إذا ثبت ذلك هو أن يبعثوا فجاراً باستثناء من بر وصدق.

وتحيل الوحدة المعجمية لـ (صبا) بطريقة غير مباشرة إلى الخروج من دين إلى دين، وتؤكد الحمولة التاريخية هذا المعنى فالصابئون "قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام، بكذبهم".

ويلاحظ أن المعجم في حقيقته يؤكد التوجه نحو التمرد على القيم الاجتماعية والدينية.

أما أسماء الإعلام التي استعملها الشاعر فهي ثلاثة أسماء فقط: (أروى، وكسرى أنوشروان، ونصيب) وقد وضحنا دلالاتها آنفاً، ويقول مولينو في صدد استعمال أسماء الأعلام: "إن أسماء الأعلام، إما أن تكون متصلة بجماعة لغوية، وإما أن تكون منتمية لثقافات أخرى، ومعنى هذا أن استعمالها سيكون من قبيل الاستعارة وعلاوة على هذا العامل المشترك في كل الاستعارات الغريبة، فلأسماء الأعلام استعمال شعري مختلف، فهي تحمل تداعيات معقدة تشدها إلى قصص تاريخية أو أسطورية وتستدعي تلميحات تقل أو تكثر، أبطالاً وأماكن تنتمي إلى ثقافات معينة، بعيدة في الزمن، لكن لها قرينة وجودية حقيقية أو أسطورية، فبعض الأسماء قد تكون بذاتها حاملة لشحنة شعرية معينة"ص111) أما تضمينه لبيتي نصيب، فعلاوة على الوظيفة والخلفية السياسية فهناك خلفية شعرية تنمي مكونات النص الأدبي، وهذا ما نبه إليه محمد أحمد العزب بقوله: "والتضمين له في الفكر العربي الناقد مكانة مرعية، لأنه يضيف إلى الخبرة الفنية للشاعر خبرة شاعر آخر، أو مجموعة من الشعراء الآخرين ، كما أنه يخصب النص بإدخاله على الفور في عالم النص المضمن، كما أنه يبقي على وهج هذا المضمن، بإبقائه في دوائر الحضور والسطوع، وبهذا يعمل التضمين على مستويين معاً في وقت واحد، بينما هو يثري عالم العالم الشعري الآني بنقله لبعض روائع التراث ضمن سياقه الفني، وإذاً هو يسحب إلى الضوء وحس المعاصرة هذا النموذج التراثي الذي ضمنه عمله الأدبي، فأبقى فيه على حس الحضور واستمرارية البقاء.

النص بلاغياً: إن من أبرز التشكيلات اللغوية نوعية الجمل التي وظفها الشاعر، فبالمقارنة بين نوعية الجمل التي استعملها نجد زيادة بارزة للجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، ويفسر ذلك طبيعة الانفعال الشعري المتمثل في كون الشاعر ليس حامل أخبار، وإنما هو مترجم أحاسيس وانفعالات، وليس مصوراً للواقع، وإنما مصور لرؤاه الخاصة، هذا بالإضافة إلى اعتماده أساساً على أسلوبين:

- أسلوب التجريد: حيث يجرد الشاعر من شخصه ونفسه شخصاً آخر يخاطبه، ويستمر هذا الخطاب عبر أفعال (هجرتك، لم تهجرك، فخذها، إن تزاوجه، هات، فغنني). إلى أن يفصح الشاعر عن ذاته ويعلن عن نفسه بواسطة ضمير المتكلم، وهذا الإفصاح الذي لا يتم إلاّ في حالة الإنشاء (فقد وافاني القدح المدار) ويحكم الشاعر هذا الانتقال داخل السرد بين ضمائر الخطاب المتعددة وضمير الغائب (باكرها، مفاصله)، وضمير المتكلم بشكل يوهم بتعدد شخصيات القصيدة أو تعدد الأصوات فيها.

- الأسلوب الثاني هو التورية بدءاً من كلمة (أروى) فإذا كان المعنى القريب اسماً للحبيبة الممتنعة الهاجرة، فالمعنى البعيد، هو صيغة التفضيل من روى يروي، بمعنى سقى يسقي، وامتزج هذا الاسم بالخمرة حين نسيت أروى منذ الشطر الأول في القصيدة.

وإلى جانب ذلك، في النص أساليب بلاغية أخرى تتمثل في التشبيه (كعين الديك)، والاستعارة (درر كبار، طبيخ الشمس لم تلذعه نار، تطاير من مفاصله الخمار) والملاحظ أن هذه الاستعمالات البلاغية الثلاث، قد وظفت في إطار الحديث عن الخمر بهدف إخفاء طابع أكثر تجسيداً وتشخيصاً لها، في تدرج واضح:

من تشبيه لونها (كعين الديك يعلوها احمرار) إلى تشبيه فقاعاتها (درر كبار) إلى تشبيهها كاملة (طبيخ الشمس لم تطبخه قدر بماء لا ولم تلذعه نار).

كما استخدم الكناية في (بنات الكرم)، والطباق في (هجرتك/ الوصل، وهجرتك/ لم تهجرك وظلمت، وانتصار). واستخدم الجناس في (تتجر/ التجار) و (هجرتك/ تهجرك).

وتتشكل الصورة الشعرية في القصيدة من عناصر متعددة ومتباينة يمكن اختزالها في: (الإنسان) الطبيعة، الحيوان، الأشياء، وتحيلنا هذه العناصر إلى عوالم مختلفة تقوم على تعارض واختلاف، إلاّ أن القصيدة تلغي ذلك عن طريق المجازات والاستعارات والصور البلاغية الأخرى، لينتفي الاختلاف ويحل محله التفاعل.

يحضر الإنسان في القصيدة على عدة مستويات، ومن خلال هويات متعددة، فهناك:

- الإنسان/ الشاعر، متمثلاً بأبي نواس ونصيب.

- الإنسان/ المرأة، يتحدد في أروى، والنشء الصغار

- الإنسان/ الملك، يتحدد في كسرى أني شروان

- الإنسان/ بمفهوم عام، التجار، المخمور.

الإنسان/ الشاعر كما تقدمه القصيدة، أو بالأحرى كما يقدم نفسه لأنه مبدعها، يعاني أزمة على المستوى العاطفي الإنساني، لأنه مهجور بعد وصل من طرف أروى، فيلجأ للخمرة كتعويض، ويعطي غياب المرأة لحضور الخمرة قيمة خاصة بالنسبة للشاعر، ورغم استبداد الخمرة في القصيدة بعالم اللذة إلاّ أن ذلك لا يحجب العناصر الأخرى المصاحبة لها، كالغناء، والندامى، والغلمان، وكل الخصائص المميزة لطقوس شربها إلاّ أن الإنسان الشاعر لا يرسم لنا معالم بنيته النفسية وطبيعتها، خصوصاً وأن الهجر يفترض ذلك ومقابل هذا التهميش والغياب المطلق المرتبط بأروى، فإننا نلاحظ حضوراً واضحاً للخمرة من خلال التركيز على معلومات تقليدية عنها بصفة عامة، لا تعكس العلاقة الحميمة والمعقدة بين الشاعر وبينها. ينقل الإنسان الشاعر إلى المتلقي باختصار، خبر الهجر. ولكنه لا يقف عند أثره النفسي، أو حتى عند ماضي العلاقة بينه وبين أروى، وطبيعتها، وبعد ذلك يبدو مسكوناً بهاجس اللذة/ الخمر، الذي يدمن الحضور في بنيته النفسية، ويمكن الاستنتاج بأن الشاعر في الحقيقة يبدو محايداً ومحدود الفعالية في نقل أحاسيسه مقابل استعراض معلومات وأوصاف الخمرة.

وبالإضافة إلى الإنسان/ الشاعر، مبدع القصيدة، يحضر نصيب كشاعر من خلال بيتين شعريين يعزز قصد الشاعر والمنحى الدلالي للقصيدة، والعنصر الذي يوحد بين الشاعرين، الرغبة في تحقيق اللذة، على الرغم من أنها أكثر وضوحاً عند نصيب لأنه قائل البيتين، هذا بالإضافة إلى الثورة على القيم الاجتماعية والدينية.

وهناك ملاحظة أساسية، هي موقع الدعوة لإنشاد بيتي نصيب، فلحظة الرغبة في غناء البيتين، أي نقلهما من لحظة سكونية إلى أخرى يكسبها الصوت تأثيراً إضافياً، تأتي بعد أن وافى القدح المدار الشاعر، بمعنى أن هناك ترابطاً منطقياً تحكم في كون الغناء المرغوب فيه يأتي بعد لحظة الشرب، وفي كون مضمون الغناء، الغناء المتمرد على القيم الاجتماعية والدينية، يتلو اللحظة نفسها، إنها زمن الانعتاق المطلق واللامحدود من كل قيد يرسمه الدين أو تحدده الأعراف الاجتماعية. وهكذا يتحدد اللقاء بين الشاعرين أما الإنسان/ المرأة، فتلقيه القصيدة إلى ذهن المتلقي بطريقة إخبارية تقريرية ومختزلة خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأروى، مما يثير بعض التساؤلات: هل تغييب أروى، يعني فتور العلاقة بينها وبين الشاعر؟ أم أنها ليست امرأة حقيقية، وإنما هو اسم عام يطلق على كل امرأة؟ أم أن الاسم يحمل دلالة تاريخية عربية فأورده كرمز لرفضه للعرب ووصمهم بالخيانة؟ أم أن الشاعر تربطه بالخمرة علاقة تعويضية تجعله يجد في شربها راحة نفسية؟ كلها تساؤلات مشروعة ومن الصعب تحديد جواب معين، لأن النص الذي بين أيدينا لا يتيح لنا إمكانية ترجيح افتراض على آخر، ويحتمل أن تكون صفة عامة تطلق على المرأة، خاصة وأنها في المعجم تحيل إلى ذلك، ففي اللسان تحدد هويتها اللغوية على أنها اسم امرأة (مجلد3 ص 632)، كما تحضر المرأة من خلال بيتي نصيب كذلك، وحضورها يحيط به أوصاف معينة تحيلنا إلى عمرها وبنيتها الجسدية، إلاّ أن حضور المرأة من خلال صفات معينة لا يعني أهمية خاصة لأن قائل البيتين شاعر آخر غير مبدع القصيدة، وحضورها ليس واقعياً بل متخيلاً، مما يعزز منطلقنا عن غياب المرأة شبه المطلق في القصيدة.

ويحضر الإنسان التاريخ من خلال كسرى، وحضوره له دلالة مهمة لأنه يوظف لإضفاء قيمة خاصة ومتميزة على الخمرة، فهو ليس إنساناً عادياً، فهو في أعلى الهرم التركيبي، هذا بالإضافة إلى أن اسمه يستدعي تداعيات كثيرة حول شخصه وحكمه وحروبه.

أما أروى وهي إحدى زوجات عبد المطلب فتميل إلى العرب والإسلام، كونها إحدى جدات الرسول (ص) أما الإنسان/ التاجر (بائع الخمرة) فهو مميز بأنه يقدمها لكسرى فهو تاجر كبير وليس تاجراً عادياً، بينما ورد المخمور مطلقاً، وهذا الإطلاق يعطيه صفة خاصة بأنه مغمور ومجهول.

وبعد استعراض مستوى الإنسان في القصيدة يمكن الوصول إلى الاستنتاجات التالية:

- يتصف الإنسان الحاضر في القصيدة بالتعددية، لكن حضوره مختزل ومشتت.

- يوظف حضوره-من خلال أغلب مستوياته- لصالح عالم الخمرة كبؤرة دلالية أساسية في القصيدة.

- لا ترصد القصيدة الأبعاد النفسية للإنسان، لكنها تتعامل معه تعاملاً إخبارياً تقريرياً يستثنى من ذلك (المخمور والنشء الصغار) حيث تنقل القصيدة وصفاً لتأثير الخمرة عليه، ووصفاً للفتاة مهضومة الحشا وهو يرتبط بالبنية الجسدية لا النفسية.

- التعامل التقريري مع الإنسان أدى إلى انعدام الكثافة في الصورة الشعرية، وعدم تركيبها.

وكثير من القصائد الجيدة تحفل بالصور البسيطة، ولكن تراكب الصورة وكثافتها وغرابتها من سمات الشعر الجيد وتتشكل الصورة الشعرية التي تمثلها الطبيعة من وحدات صغرى كالشمس والنار والماء والكرم إلاّ أن حضورها المكثف يأتي في البيت الرابع، وتتصف العناصر الطبيعية بالحياد إذ لا تتأسس بينها وبين الشاعر أو غيره علاقة نفسية حميمة، بل توظف لإضفاء بعض الخصائص الإيجابية على الخمرة، ويتضح ذلك في البيت الرابع آنف الذكر.

ويحضر الحيوان في الصورة الشعرية من خلال الديك وعينيه خاصة، والتين تربطهما بالخمرة علاقة التشبيه، ووجه الشبه الصفاء، وهذه الصورة نجدها بكثرة في الشعر العربي.

ويتشكل عالم الأشياء بعناصر ثانوية: كالقدح والقدر، وأبرزها الخمرة التي تتمحور حولها القصيدة وتوظف لصالحها جميع العناصر، ويركز الشاعر على صفاتها المختلفة وتأثيرها وقيمتها.

وتتحول عنده الخمرة في البيت الثالث من عنصرها المادي إلى عنصر سماوي، وللصورة بعدان في هذا البيت بعد فلسفي، يتجلى بتأثر الشاعر بالفلسفة اليونانية وبد مقريطس خاصة في أن الكون يتألف من أربعة عناصر هي: التراب والماء وهما عنصران وضيعان، والهواء والنار وهما عنصران شريفان، والخمرة الرقيقة اللطيفة من عنصر أفضل خارج عن نطاق المعرفة الحسية أو العقلية، مجرد نور يلد ويتولد ينابيع ضياء تتفجر من قلب الخمرة النورانية.

وبعد نفسي يتمثل في التركيز على الجانب الجنسي في الخمرة، فهي تتزوج وتلد، وأحياناً يحس إزاءها إحساس الولد نحو أمه (تولد).

ولا تمثل الخمرة في البيت السادس واقعاً حسياً، بل حالة لا شعورية، إيحائية، لأنها لا تشخص بالعين ولا تدرك بالعقل، بل هي شعور غامض لا يترجم ولا يفهم إلاّ بمثل هذه الصورة الإيحائية، "لأن أبا نواس لكثرة تمرسه بعلم الكلام، ومؤالفته لمجالس الجدل، أصبح يرى من الداخل في عتمة المعاني والضمير كما يرى الناس في الأشكال الحسية من الخارج" هذا بالإضافة إلى أن العصر العباسي أصبح قادراً على تقبل وتداول المعاني الذهنية في واقعها التجريدي، كما تداولها الجاهلي في واقعها المادي المحسوس، فالخمرة إذن عنصر تحول وعنصر تغيير.

فالصورة الشعرية عند أبي نواس غالباً ما تكون بين المنطقية واللامنطقية، بين الممتنع والمتناقض، المنطقية توافق بين الفكر والواقع، واللامنطقية تنافر بينهما، فالممتنع لا يكون ماثلاً في الواقع ولكن من الجائر: أن يتصور في الذهن، والمتناقض لا يمكن تصوره في الذهن.

كما اعتمد على الألوان في صوره المادية (صافية، تزاوجه بماء، درر، عين الديك يعلوها احمرار) واتخذ من الأدوات المستعملة في صنع الخمرة (القدر، النار، طبيخ الشمس، القدح) كقطع إكسسوار لإكمال الديكور الكامل الذي يجسد الصورة.



 

 

 

www.omaraltaleb.com