الفصل الأول: رحلة في معلقة امرئ القيس

 الباعث على نظمها:

يرى بعض الباحثين أن الباعث على نظم المعلقة هو (يوم دارة جلجل) حينما التقى امرؤ القيس بابنة عمه شرحبيل (عنيزة أو فاطمة) ويرى البعض أنهما شخص واحد وكان هائماً بها- عند غدير كانت عنيزة وصويحباتها يستحممن فيه، وكان امرؤ القيس يتربصفلما رآهن وقد خلعن كامل ثيابهن، ظهر لهن ومنع عنهن ملابسهن وطلب إليهن أَن يخرجن أمامه واحدة تلو الأخرى مقبلات ومدبرات وعندئذ فقط يعطيهن ملابسهن. وعندما أوشك المساء أن يحل اضطررن لذلك ما عدا عنيزة فقد أبت الخروج، ولكنها اضطرت أخيراً لمجاراته في طلبه. وما كان من امرئ القيس تحت برحاء الحب والنشوة إلاّ أن عقر لهن ناقته ورحن يمرحن ويتضاحكن وهن يشوين اللحم ويغلفنه بالشحم، وهن سعيدات فرحات إلى أقصى ما تكون السعادة والفرح. ((وعلى أثر ذلك نظم مطولته مقاطع مقاطع على الأغلب فوصف الحادث وأضاف إليه شتى الذكريات مما جرى له قبل مقتل أبيه، فكانت قصيدته وليدة حبه لعنيزة ووليدة ولعه بالصيد والضرب في البلاد)).

وعلينا لبيان الحقيقة أن نقف موقف الشاك من كل ما قيل لنصل من هذا الشك إلى الحقيقة، إن في هذه القصة روح القصاص في العصر العباسي وتبدو غير منطقية لأسباب عدة:

-    كيف يصنع ما يصنع بفتيات بواكر من دون أن تثار حفيظة أهلهن؟ ودون أن يثار لكرامتهن المهدورة؟

-    وكيف تخرج نساء العرب دون حراسة وهن ذاهبات إلى غدير ليستحممن؟

-    وكيف ترضى الفتيات بهذا الامتحان الماجن إلاَّ إذا كنَّ بغايا

-    وكيف يرضى امرؤ القيس أن يمتهن نساء قومه؟

-    وكيف يستسيغ أن يدنس شرف ابنة عمه (عنيزة) وحبيبة قلبه كما ذكر مؤرخو الأدب؟

-    ولماذا لم يأت على ذكر الغدير والثياب والموقف برمته في شعره ما دام متعهراً إلى هذا الحد؟ ولماذا لم يصفهن وهن عاريات ما دام يستطيب مثل هذا المنظر؟

((ثم ذكر صاحبته بشيء من مغامراته مع غيرها في شعر ما جن ووصف مكشوف يبدو فيه وكأنه يتحدث إلى عاهرة من الساقطات لا إلى حرة من بنات عمه.. فامرؤ القيس الذي سبق إلى هذا الفن أو في أجزاء منه والطبيعة لا تكذب هذا، فحياة امرئ القيس الحرة التي ينتهب فيها اللذات انتهاباً لا تمنع من أن يصف ذلك في شعره وأن يوجد فيه ذلك القصص الغرامي الذي افتتن به عمر بن أبي ربيعة)). كل هذا يثبت أن القصة مختلقة أصلاً وليس فيها أي منزع لواقع مصدق.

أما المسألة الثانية التي تحتاج إلى المناقشة، فهي مسألة الموضوع، هل حقاً أن الدافع لنظم المعلقة هو يوم دارة جلجل؟ لا أرى ذلك فلم يكن يوم دارة جلجل إلاّ إحدى الذكريات التي تواردت على ذهن الشاعر وهو يقف على أطلال عفى عليها الزمن. تلك الأطلال التي ذهبت بالماضي ولم تبق للشاعر غير الذكريات، والشاعر يقف إزاء الموت المتمثل بالطلل وهو يمثل التجسيد الكامل للحياة، وما قدرته على التذكر إلا وسيلة أخرى من وسائل الحيوية والكينونة الثابتة في نفسه، فالموقف الذي دفع لنظم المعلقة هو ليس أكثر من موقف الحياة تجاه الموت. إن طبيعتها وصدق دلالتها على البيئة التي قيلت فيها وعلى نفسية صاحبها، وطبيعة التجارب التي عبر عنها والأحداث التي لعبت دورها في حياة أصحاب الفن أو الذين كان فنهم مرآة تنعكس على سطحها صورة تلك الأحداث، كل ذلك يجعلنا نقف من المعلقة موقفاً جديداً يستدعي تحليلها وفق منطق جديد يثبت السمات البارزة فيها. ومن ثم في كونها النموذج الأعلى للقصيدة العربية كما رآها ابن سلام في (طبقات الشعراء)، وكما نراها نحن الآن من أنها ضرب من التاريخ الوجداني للفردية الناجزة في الواقع الموضوعي، ومن أنها تثابر مع إنجاز ذاتها رغم الروح القبلية التي كانت سائدة في العصر الجاهلي. ويرى البعض أنها نظمت على شكل قطع صغيرة في حوادث مختلفة ثم جمعها الرواة في قصيدة واحدة ((وداخل فيه وصف الفرس والصيد والبرق والمطر وغير ذلك، مما يدفعنا إلى الظن أن المعلقة لم تنظم كلها في وقت واحد بل قد تكون مجموعة أقوال نظمت في حوادث مختلفة)). ونحن لا نرى ذلك بل نراها تمثل وحدة شعورية واحدة جاء نظمها في وقت واحد وفي حالة شعورية واحدة ((إن القصيدة التي أنشئت لتكون قمة للعبقرية أضحت معياراً يقاس به صنف الشاعر إن أقدم القصائد التي يظن أن الشاعر يخاطب صاحبيه من أبناء عشيرته مختلفة في انتقاء الموضوعات وترتيبها ويبدو أنها لا وظيفة لها غير التعبير عن شخصية الشاعر الخاصة وردوده لظروفه)).

الوقوف على الأطلال:

يبدأ امرؤ القيس معلقته بالوقوف على الأطلال، فقد أوقف صاحبيه معه ودعاهما لمشاركته بكاء ذكرياته الماضية في هذا المكان الذي حدده جغرافيا:

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

لما نسجتها من جنوب وشمأل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

إن طلبه إلى صاحبيه مشاركته البكاء لذكرى الحبيب غير منطقي ولا يستدعيه الموقف، فالذكريات الأليمة لا تستحق مشاركة البكاء عند الرجال على الأقل. أما الحزن فينبعث عادة من النفس دون حاجة إلى استدعاء المشاركة، هذا بالإضافة إلى أن دعوة المشاركة لا تتم في حالة الحزن بل في حالة السعادة والفرحة ((إنه استوقف من يبكي لذكرى الحبيب وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه، فأما أن يبكي حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمر محال فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضاً عاشقاً صح الكلام وفسد المعنى من وجه آخر لأنه من السخف ألاّ يغار على حبيبه وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه)).

فإذا كانت الدعوة للمشاركة في البكاء غير منطقية، والوقوف على الأطلال لمجرد بكاء ذكريات ماضيه مع الحبيب تبدو غير مناسبة لشخصية امرئ القيس الرجل اللاهي كما عرف عنه- فلماذا وقف على الأطلال إذاً وبكى هذا البكاء المر؟

يجيب ابن قتيبة: ((سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار.. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه فإذا استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحر الهجير وانضاء الراحلة والبعير..)) وإذا كان كلام ابن قتيبة يصح على صناع قصائد المديح فهو يجانب الحقيقة في معلقة امرئ القيس، فالشاعر يقف من الأطلال موقفه من كائن حي يحس به إحساساً كاملاً ويقف منه مخاطباً ومستوضحاً ما حل بساكنيه. وقد عدّ ابن رشيق القيرواني الوقوف على الأطلال مفتاح القصيدة، لا إلى الأغراض الأخرى بل إلى نفس الشاعر الذي ينطلق من نفسه إلى الآخرين بعد ذلك في الأغراض الأخرى التي يتطرق إليها. ((وابن رشيق في هذا يخالف ابن قتيبة فهو لا يجعل من شعر الغزل وسيلة لأغراض أخرى يتلمسها الشاعر عند السامع وإنما يجعل منه وسيلة الشاعر إلى نفسه)).

ويقول جب في هذا الصدد: ((إن هذا الموضوع الذي يطلق عليه اسم الغزل لهو في الحقيقة شيء يختلف تماماً. إنه ذكرى حب حزينة وعنصره العاطفي الجوهري هو ادكار الفراق وصلته عادة بالغزل ضعيفة ومن ناحية الجدارة الشعرية فهي معلقة امرئ القيس وقصيدته اعتداد بالنفس)). وهو عندما لا يرى غير آثار الحيوانات التي استطاب لها المقام فيه كما استطاب لأحباب الشاعر في الماضي قطع الموقف رأساً وانتقل إلى تصوير ذكريات المرارة التي أحسها عند رحيلهم، وتكاد مرارته الآن تبعث ذلك الطعم المرّ في فمه، ذلك الطعم الذي ذكره بطعم مشابه له كل المشابهة، ساعة ارتحال من كان يحب في الماضي:

وقيعانها كأنه حب فلفل

ترى بَعَرَ الآرام في عرصاتها

لدى سمرات الحي ناقف حنظل

كأني في غداة البين يوم ترحلوا

فهل موقفه إذاً مجرد ادكار للماضي؟ لا أعتقد ذلك، فهو يشخص الطلل وكأنه يشخص الماضي من خلاله، فهو في تشخيصه للماضي إنما يعبر عن حقيقة مشاعره تجاه هذا الماضي، فهو يعبر فيه أولاً عن نفسه وقلقه تجاه ظاهرة (الزوال)، وظاهرة الزوال هذه تأخذ شكليها في نفس امرئ القيس. الشكل الاجتماعي المتمثل بالحياة القلقة في الصحراء والتي تعتمد على التنقل المستمر وراء الماء والكلأ. وظاهرة الزوال الكونية المتمثلة بالموت، فهو في وقفته تلك على الأطلال يستجلي موقفه من المجهول الذي يتربص بالبشرية. ومن هنا جاء انفجار ينبوع الحزن في نفس الشاعر كأقوى ما يكون عليه الشعور به حتى كاد الشاعر أن يهلك أسى لولا تدخل صاحبيه ومحاولتهما التخفيف عنه.

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

يقول فالتربروانه: ((إن النسيب وإن اختلفت أنواعه فهو اختبار القضاء والفناء والتناهي لقد ملأ في الوجود والمصير على الشاعر الجاهلي حياته غير أنه لم يكن تعبيراً صادراً عن تشاؤم وإنما كان حافزاً يحفزه على الإقبال على الحياة ويصور لنا الشاعر إحساسه بتلك العناصر الكونية الثلاثة، اختبار القضاء والفناء والتناهي وموقفه منها)).

لذا فهو يسيل عباراته حزناً على تذكر (الرحيل) وقفر الديار من أصحابها، لأن الرحيل في الحياة الدنيا يمثل لديه الرحيل إلى العالم الآخر (الموت)، وهكذا يمتزج فعل الرحيل بشكل واحد هو (الموت)، (الشعور بالموت لا يمكن أن يكون شعوراً داعياً كالشعور بالحياة، بل هو شعور غاية في الخفاء يظهر أحياناً في ظروف خاصة متخذاً من الأقنعة أو الرموز مرة أخرى ما يضمن إخفاءه وإن نمّ عليه. إن قليلاً من البحث يكشف لنا رموز الحياة والموت في كل جوانب حياتنا حيث تداخلت في نسيج تاريخنا وأساطيرنا في شعرنا وتصويرنا في أحلامنا وحديثنا بل إنه لمن المحتمل أن تسيطر هذه الرموز بطرق عدة بارعة على حياة كل فرد)). لذا فإن الشاعر عندما يهدر همومه وأحزانه مع انسكاب دموعه، يعود إلى عقله ويدرك أن البكاء على الأطلال لا يجدي شيئاً، بل هو عمل مهدور لا نفع فيه:

فهل عند رسم دارس من معول

وإن بكائي عبرة مهراقة

إن إسرافه في وصف الدموع المنهمرة هذا الانهمار المبالغ فيه يناسب طبيعة الإنسان البدائي لأنه إنسان مطبوع على سجيته وهذا ما يجعل شعر امرئ القيس صادقاً وهو في حالة الأسى هذه لأنه يطابق واقعه النفسي الشجي وهو واقف على الأطلال.

وقد رأى الباقلاني بملكته البلاغية الواعية أن هذا البيت ((مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافياً كافياً فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى وتحمل ومعول عند الرسم الدارس ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدخل على أن الدمع لا يشفي مابه من الحزن ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى)). وأرى أن بكاء الشاعر على الرسم الدارس شبيه ببكائنا على أمواتنا. أليس الرسم الدارس وجهاً آخر للموت.

لقد تواكبت على خلق الوقوف على الأطلال في معلقة امرئ القيس ظروف بيئية ومادية وتاريخية وشعورية لتخلق حالة الخوف من المجهول، وهو خوف ديني متوارث منذ نشوء الخليقة.

إن الأطلال تدفع إلى الأسى في نفس الشاعر لأنها تذكره بانقضاء شطر من عمره، لذا نجد امرئ القيس يكثر من ذكر الأماكن في معلقته ويلجأ إلى تحديد جغرافيتها، فهو يعقد في هذا التحديد الجغرافي بين المكان (الأرض) الباقية الصامدة في وجه الزمن (سقط اللوى، الدخول، حومل، توضح: المقراة، مأسل) وبين الديار التي زالت واندثرت آثارها بفعل الرياح والأمطار وعادت مرعى للحيوانات المتوحشة.

هذا الموقف من طبيعة البيئة الصحراوية، يقود الشاعر دائماً إلى قضية صرفة، هي علاقته بالمرأة التي تستقطب الذكرى في نفسه، تلك المرأة التي لا يذكر منها غير الأفعال الحسية والاستمتاع بها، ليقف فعل الحب هذا تجاه الاندثار الكامل الذي يجده الشاعر في وقوفه على الطلل:

وجارتها أم الرباب بمأسل

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وهو يتخذ من المرأة الحية في عالم الواقع والحية في نفسه وذكرياته، رمزاً لحركة الحياة، التي تبدو فاجعة في إتيانها على معالم الأحياء، متمثلاً بالطلل، ولكنها رغم ذلك منتصرة في إبقائها على الربع والأرض والمكان من ناحية، وإبقائها المرأة المحبوبة حية في واقعها وفي ذكريات الشاعر من ناحية أخرى. وإن كان حنينه إلى المرأة يمثل إحساسه بغدر الزمان وبفجيعة الموت.

إن ما يحدث هو ظرف تاريخي بحت لسكان الصحراء، هو ليس فعل امرئ القيس ومن بعده بل هو فعل الأقدمين أيضاً. لقد عانوا ما عاناه امرؤ القيس، فقد وقف أناس كثيرون قبله على مثل هذه الأطلال لأنها سنة الحياة في البيئة الصحراوية.

على النحر حتى بلّ دمعي محملي

ففاضت دموع العين مني صبابة

إن هذه المبالغة في وصف البكاء سببها الإحساس بالغربة، ثم الحنين إلى هذه الأرض (الأم) التي ابتعد عنها وبالتالي يتمثل هذه الأرض الأم بالمرأة، أم البشر، فهي صفة الاستقرار والخصب والنماء، فقد اتصل الحبيب بالأرض بصورة لا شعورية، لأنهما واحد.

إنها الوحشة التي يحسها الشاعر عند وقوفه على الأطلال حتى يفرط كل هذا الإفراط في البكاء لأن الوحشة تمثل لديه الموت، وكأن حياتهم الاجتماعية التي يحيونها تعني موت الحياة، لذا فهو ثائر على طبيعة الحياة البدوية، لذا فهو يبكي هذه الآثار تارة ويشفق على نفسه منها تارة أخرى ويجزع ثالثة. فهو يتحدى حياة الترحال، ويتوق إلى حياة الاستقرار في أحضان امرأة يحبها.

والشاعر يلمس هذا التناقض في الحياة بين الرهبة المتمثلة في الترحال (الموت) وبين الجمال المتمثل بالحب (الحياة). ((ومن يدري لعل الشاعر العربي لم يكن يبكي حبيبته أو يرثى لعشها المهجور فقط بل كان يبكي من حيث لا يشعر ذلك الحظ التعس الذي مني به هو وأمثاله من البدو حين فرضت عليهم ضرورة الحياة ألا يزالوا متنقلين على رقعة الصحراء كأنهم قطع شطرنج، وهم على سفر واجتماع وافتراق ووصل وهجران مختارين حيناً ومكرهين أحياناً)).

ويدور صراع قوي بين الرهبة والجمال، فقد قضت الرهبة على آثار الحبيبة ولكنها لم تمتها فهي ما زالت حية في نفس الشاعر وما إعادة الذكريات القديمة إلا إحياء مستمراً لهذا الجميل المتمثل في الحب. يقول العقاد: ((إن النفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان هما حب الحياة والخوف من الموت. وبهذين العاملين يتعلق الشعور بالجميل والجليل. فالجميل هو كل ما حبب الحياة إلى النفس وأظهرها لها في المظهر الذي يبسط لها الرجاء فيها ويبعث على الاغتباط بها والجليل كل ما حرك الوحشة وحجب عنها رونق الحياة. فالربيع والصباح والنور كلها جميلة لأنها تنعش الحواس وتذكرها بالحياة.. والسكون والقفار المخيفة والأطلال الدارسة كلها جليلة لأنها تقبض الحواس وتميل بالنفس إلى التضاؤل والضعة أمام رهبة الفناء وعظمة الطبيعة وضخامتها)).

لقد انتصر الجميل (الحياة) على الجليل (الموت) في معلقة امرئ القيس. فالحب أبقى في نفس الشاعر من الأطلال التي عفى عليها الزمن، أما الحب فهو باق لا تؤثر فيه مؤثرات الزمن. وما الذكرى مهما طال عهدها- إلا صورة لبقاء هذا الجميل (الحب).

إن امرأ القيس لا يكتفي بتحدي طبيعة الحياة، بل يتحدى طبيعة الكون، ويتحدى الموت عن طريق الفعل لإثبات وجوده. ولنحصي ما يدل على الحركة في الأبيات السابقة الذكر (قفا، نبك، ذكرى، لم يعف، نسجتها، ترى، تحملوا، ناقف، وقوفا، يقولون، لا تهلك، تجمل، دأب، فاض، بلّ). كل هذه الحركة أرادها الشاعر تحدياً للموت المتمثل في الطلل وإثباتاً لوجوده هو (الحياة) أمام الموت (الطلل). هذا بالإضافة إلى سخريته الشديدة من الطلل (الموت) في قوله (وهل عند رسم دارس من معوّل) والجواب هو النفي بالطبع مع البكاء الشديد المبالغ فيه، والذي يدرك مبالغته هو أيضاً (حتى بلّ دمعي محملي) ليوقف قوة الفعل هذه أمام همود الموت المتمثل بالطلل فهو يريد أن ينتصر في مبالغة الحياة على سكون الموت.

إن امرأ القيس يحيل تجربته المادية تلك في الترحال والغربة- إلى تجربة شعورية تتحدث عن مأساة التغيير في الكون- الحياة التي يعقبها الموت- فكل شيء إلى زوال، لذا فهو يتنكر للموت الذي طمس الآثار كما يطمس آثار البشر. لذا يحاول الشاعر إحياءها بقوة وعنف في نفسه ليقف بها أمام الموت. وبالذات تلك الذكرى المحببة إلى قلبه ذكرى عنيزة وصويحباتها في يوم دارة جلجل:

ولاسيما يوم بدارة جلجل

ألا رب يوم لك منهن صالح

ولكن أليس العيش في الماضي نوعاً من الموت في الحياة؟ لقد رأى البعض ((غادر امرؤ القيس خدر عنيزة وترك الخمر والصيد وذهب وراء ثأر أبيه وأراد أيضاً أن يثأر لنفسه من واقع حياته فمات على جبل تركي بعد أن طوف الآفاق ورضي من الغنيمة بالإياب)). ولكن الباحث يرى أن امرأ القيس لم يذكر الماضي ليعيشه فيكون كالحي الميت، بل هو وقف من الذكرى المتمثلة بالأطلال موقفاً إيجابياً تماماً. فقد تحدى الموت عن طريق الذكرى التي تمثل الوجود والحياة. لا أدعي لامرئ القيس الفلسفة، فعصره لم يكن عصر العقل بل عصر المشاعر، فهو لم يرض بوجدانه بما هو كائن فهو (كلكامش) جديد يبحث عن سر الوجود وسر الحياة. فإذا ما تمرد على النواميس الاجتماعية والدينية والأخلاقية لعصره، فهو قد ثار في وجه الموت ولم يستسلم له أبداً، لأن الحياة كانت تصرخ في جنبات نفسه بشكل عارم قوي.

لقد ذكر امرؤ القيس الجزء (الطلل) وكان يريد به الكل (الكون) وذكر الأماكن وحددها للدلالة على هذا المطلق الذي ذهب منه الجزء (الخيمة أو البيت) ولكن الأرض (الكل) الذي أقيمت عليها الخيمة أو البيت ما زالت باقية وستبقى ما بقيت الحياة على سطح الكرة الأرضية ((فالوقوف على الطلول المهجورة بالتبرير الفلسفي نوع من حنين النسبي إلى المطلق وما الأرض في وعي الشاعر الجاهلي سوى البديل في العملية النفسية المصعدة للآخر المطلق رمز الخلاص والانعتاق والتحليل بل هو إله آخر ربما كان أسطورياً تختزنه الذاكرة من بقايا الأساطير الدينية الموروثة منذ القديم)). من هذا الموقف بالذات بدأ امرؤ القيس يؤكد على صدق انتمائه لا للجزء (الطلل) بل للكل (الأرض). وظهر حنينه للجزء لأنه منتم إلى الكل. وهكذا يتداخل الجزء في الكل والكل في الجزء في مطلع المعلقة. ونتيجة لإحساسه القوي بالغربة شعر بحنين طاغ إلى الأرض والمرابع حيث الاستقرار الدائم وبالتالي الحب والخصب والنماء والجمال. فعرج من ذكر الأطلال إلى تذكر أيامه الجميلة مع المرأة، سواء أكانت عنيزة أم فاطمة، أم الحويرث أم أم الرباب، فكلهن مستقر وأمان من المخاطر وكلهن أداة للخصب والنماء وبالتالي كلهن مأوى من الخوف الاجتماعي (الرحيل والغربة) والخوف الكوني (الموت) لأنه سيرى نفسه في ولده. ومن هنا يأتي انتصار الحياة على الموت بديمومة الإنسان عن طريق التوالد والتجديد ضد الموت القديم الذي لم يدم ولم يتجدد. وهكذا تقف الحياة إزاء الموت في معلقة امرئ القيس لتنتصر الحياة على الموت كلما أوغلنا في بناء القصيدة. فهي عبارة عن صراع أبدي بين حب الحياة وغريزة الموت التي تصطرع في نفس امرئ القيس. لذا نبع الصدق من بين ثناياها وجاءت معبرة عن نفسية قائلها القلقة المضطربة فهو ((يغني غناء العيش ولا يغني إلا نادراً غناء الظلمة والاندثار والموت، إننا نشهد في شعره شعوراً حاداً بنعي الزمن وموت الأشياء وسيرها المضني فيه إحساس عميق بمأساة التغيير واللحظات التي تنقرض انقراضاً صامتاً إلا أننا لا نبصر فيه صورة بارزة المعالم لمأساة الضياع الذي عاناه)).

إن الحياة الجاهلية بما فيها من قفر وجدب ووحشة تبعث في نفس امرئ القيس الحنين إلى الأرض والالتصاق بها، فالأرض عنده رمز للثبوت والديمومة والخصب والحياة ومن ثم التجدد والنماء والخصب والخلود. ومن هنا جاءت وقفته الطويلة على الأطلال فهي لحظة تأمل غرق فيها الشاعر لتحديد موقفه من البقاء والفناء حتى انتصرت الحياة في نفسه على الموت، وبدت المرأة (الحياة) في معلقته مضمخة بالطيب نابضة بالجمال، فإذا ما هبت رائحتها فكأنها ريح الصبا ومعروف أهمية هذه الريح بالنسبة للجاهلي الذي يعاني من لفح الصحراء وقيظها الشديد، وهذه الريح لا تأتيه بالطراوة والبرودة فقط بل هي محملة بعبق القرنفل ورائحته. وهكذا تمتزج مظاهر الحضارة في هذا البيت مع السمات الجمالية للطبيعة في نفس الشاعر.

نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل

إذا قامتا تضوع المسك منهما

 

المرأة:

إن السمات الجمالية التي ظهرت بها المرأة في المعلقة مكنته من تخطي ذلك الجسر المعقود بين الشعور بالتعاسة المتمثل بالإحساس بالعدم عند وقوفه على الأطلال، والإحساس بالجمال والحياة عندما انتقل إلى وصف المرأة ومظاهر النعمة التي تحيا فيها ومن ثم مغامراته معها وتحديد علاقته بها. وهكذا استطاع الشاعر أن يتخطى إحساسه بالفناء منطلقاً إلى الحياة يصف مظاهرها الطبيعية المختلفة، فالمرأة عنده رمز للسعادة والاستقرار وهي مظهر ممتلئ بالحياة كالمظاهر الطبيعية الأخرى. لذا تناول الشاعر مظاهرها الخارجية الجمالية جزءاً جزءاً كما تناول مظاهر الطبيعة المختلفة من ليل ونجوم ومطر وسيل ونباتات وحيوانات. فهو كما يندمج في الحياة الجمالية للطبيعة يندمج اندماجاً كاملاً في الحياة (المرأة) التي تبعث فيه الشعور نفسه بالجمال والحب. لذا بدت النساء الأربع اللاتي ذكرهن في المعلقة وغيرهن ممن لا أسماء لهن خاليات من الملامح الفردية وكأنهن امرأة واحدة، تلك المرأة التي يجد عندها الحنان والاستقرار والحب ومن ثم الخلود لمواجهة الوحشة التي عاناها من ترحله المتمثل بالطلل. وهكذا تنهال الذكريات الحلوة الجميلة انتصاراً للحياة والجمال والمتعة في نفس امرئ القيس وهو يروي لنا حادثة يوم جلجل:

فيا عجبا من كورها المتحمل

ويوم عقرت للعذارى مطيتي

وشحم كهداب الدمقس المفتل

يظل العذارى يرتمين بلحمها

إن البهجة والحركة المتمثلة في هذين البيتين تمثلان لنا انطلاق الشاعر نحو الحياة الجميلة المليئة بالمتعة والحياة بين فتيات سعيدات بالإكرام الذي حباهن به الشاعر بعد أن عقر لهن مطيته. وسعادتهن المتمثلة بالحركة البهيجة التي رسمها لهن وهن يمرحن في ترامي لحم الناقة وشحمها فيما بينهن، لقد عبر الشاعر الجسر من جانب الموت المتمثل بالقلق الذي أوحاه الطلل المليء بالشجن إلى نفسه في ذكريات حية سعيدة، وهذا هو الفرق بين الغزل والنسيب فإذا كان الأول شعوراً بالسعادة والبهجة فالثاني يخلط البهجة بالحزن والألم ((إنه يجمع بين أسباب الحياة والموت وهذا يذكرنا بمبدأ التزاوج بين المتعة والألم وقد جمع الشاعر الجاهلي بين هذين الشعورين في إطار واحد هو ما نسميه النسيب أي الحب المهدد دائماً برحيل المحبوبة وكذلك الحياة المهددة بالخراب متمثلة في الوقوف على الأطلال المقفرة)). إن هذا الإحساس القلق الذي تلمسناه في نسيب امرئ القيس رغم أنه ظاهرة فردية ناتجة عن صراع نفسي يعتلج في نفس الشاعر نتيجة لقلقه تجاه المجهول الممثل لخطر الرحيل الدنيوي والكوني إلا أن مثل هذا النسيب نجده عند غيره من الشعراء الجاهليين لدى وقوفهم على الأطلال، فهي وإن بدت تجربة فردية لأول وهلة إلا أنها مشاعر مشتركة تمثل موقفاً إنسانياً مشتركاً.

وهكذا جاء انتقال الشاعر من النسيب إلى الغزل طبيعياً وهو ما أسماه الأقدمون حسن التخلص، فقد استطاع الشاعر أن يتغلب على الإحساس بالعدم في نفسه فانطلق إلى الحياة بما فيها من بهجة وسعادة، وقد بدأ غزله بذكر مغامرته مع عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

تقول وقد مال الغبيط بنا معاً

ولا تبعديني عن جناك المعلل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

إن عنيزة تمانع بدلال ووعد بالعطاء ويحس امرؤ القيس منها ذلك، وعندما تطلب إليه النزول خوفاً من أن يعقر البعير نتيجة لثقلهما عليه، فهو لا يلتفت إليها ويطلب إليها طلب المتمكن من نفس من يحب بأن ترخي زمام البعير وتدعه يسير كما يلمح لها بأنه يريدها ويبغي جناها الطيب المستملح، وهو لا يقنع بالجلوس إلى جانبها فقط بل هو يسعى إلى رغبات مادية أخرى. لذا فهو ينعطف رأساً إلى ذكر مغامراته الغرامية مع الأخريات وهو يبالغ في القول مبالغة عظيمة (فمثلك حبلى.. إذا ما بكى من خلفها).

يقول الباقلاني عن هذين البيتين: ((أي فائدة لذكره لعشيقته، كيف كان يركب هذه القبائح. ويذهب هذه المذاهب ويرد هذه الموارد. إن هذا يبغضه إلى كل من يسمع كلامه ويوجب له المقت، وهو لو صدق لكان قبيحاً فيكف إذا كان كاذباً)).

إن الباقلاني يشك في قول امرئ القيس، ولم يبد لي قول امرئ القيس صحيحاً، إنه يحاول إقناع عنيزة للحصول على (جناها المعلل)، فلو كانت عنيزة امرأة شريفة لطردته بعد مقولته تلك، لأن المرأة الشريفة لا تقبل مثل هذا المنكر من رجلها. وهذا ما يجعلني أعتقد بأن عنيزة ليست غير امرأة من بائعات الهوى، أمثال أولئك اللواتي يبعن أجسادهن للمارة من الرجال، وكن يمتلكن دوراً في الصحراء ((يؤمها الشباب ليشربوا ويمرحوا ويعبثوا ما يشاء لهم العبث، وهناك يحكي الشباب مغامراتهم، ومثل هذه البيوت كانت معروفة عند العرب وعند غيرهم من الأمم القديمة حيث كان البغاء أمراً
معترفاً به)). وقد يسأل متسائل، ولماذا يكذب عليها ما دامت بغياً تغتدي بثدييها؟

أقول أن من صفة الجاهلي في الماضي الافتخار بمغامراته الغرامية وإيقاع النساء في شراكه وأنه على سبيل الإسراف في مفاخرته بشدة فتنته وفحولته وتأثيره الكبير على النساء قد أوقع في شراكه الحبالى والمرضعات وهن لا يرغبن في الرجال عادة وهن في ذلك الوضع- وصرفهن عن أطفالهن وأجنتهن. وكأن حبه في قلوبهن وصل أقوى درجاته ألا وهو حب الأم لولدها الصغير، وهي عادة تحبه وتخاف عليه كثيراً لأنه ضعيف يحتاج إلى عنايتها المستمرة الدائمة، فكان نصف أمثال هؤلاء النساء لأطفالهن يرضعنهن ويحملنهن- ونصفهن الآخر له، فهو ليس شريكاً للأزواج فقط بل هو شريك للأبناء أيضاً.

وقد ورد على لسان الشعراء الجاهليين الكثير من مثل هذا الشعر عند تعدادهم لمفاخرهم وأمجادهم.

وقد غالى امرؤ القيس في استجابة المرأة لدواعي الجسد ليظهر مقدار قوته ورجولته وهو مظهر سلبي من مظاهر الفروسية. وهو في ذلك متأثر بواقع البيئة الصحراوية وطبيعة حياة الفرسان وخصائص الشعر الجاهلي بأن أفضل الشعر أكذبه.

كما يلمس الباحث في هذا المنزع عند امرئ القيس نوعاً من الثورة على الطريقة التي يحدد بها المجتمع المقاييس الأخلاقية وتمرداً على كبت العواطف والغرائز فهي ((تعبير عن تدفق الحياة والغريزة في وجدان إنسان يرفض عوامل الكبت والتحريم فالحلال والحرام ليست من طبيعة العاطفة والغريزة ففي هذا الشعر تتوحد الرذيلة والفضيلة، يفتخر الشاعر بهما وينزع إليهما لا لغاية أخلاقية بل لغاية وجدانية تمثل طرب النفس بذاتها وفرحها بالحياة)).

لقد خلق لنا الشاعر من خلاله أبياته الغزلية فناً عالياً اعترف به جميع مؤرخي الأدب العربي من عرب أو مستشرقين. والغاية من الفن الإمتاع وبعث السرور والإعجاب والتنفيس عن النفس. يقول دريدن: ((إن المتعة هي الغرض الرئيسي للشعر إن لم تكن هي الغرض الوحيد، أما التعليم فلا يمكن أن يكون الغرض الثاني)). ويقول كروتشه: ((ليس الوجدان الفني بحاجة إلى الوجدان الأخلاقي يستمد منه العفة لأنه ينطوي في ذاته على هذه العفة التي هي الحياء الفني. بل إن الفنان حين يتجاوز هذا الحياء فيخرج على الوجدان الفني ويدس في الفن مالا تدعو إليه حاجة فنية أو يسوغه مسوغ فني ولو كان من أنبل المسوغات وأشرفها- فإنه لا يكون قد أخطأ من الناحية الفنية فحسب بل يكون قد أجرم من الناحية الأخلاقية لأنه أخل بواجبه من حيث أنه فنان)).

إن ما عرضه امرؤ القيس في مغامراته الغرامية من صور تناسب عصره، فقد عبر فيها عن حياة خبرها وعاشها بجميع أبعادها فإذا ما أنكرنا عليه ذلك واعتبرناه تعهراً وسفاهة نكون قد تجنينا على الشاعر وعلى عصره، وكأننا نريد أن نفرض رؤيتنا الأخلاقية الإسلامية على مجتمع وثني له أخلاقياته الخاصة التي تولدت حسب ظروف وبيئات معينة فرضاً تعسفياً صارماً ((ونلوذ بمثل هذه القيم التي أفرزها المجتمع في حقبة حضارية بعينها مغايرة كل المغايرة للحقبة التي نعيشها وكأن الشعر شيء يعيش في المطلق خارج الزمان والمكان اللذان يحددان إطار واقعنا)).

أو نتيجة لعدم إقبال النساء عليه فقد كان امرؤ القيس ((مفركاً لا تحبه النساء ولا تكاد امرأة تصبر معه. تزوج امرأة من طي فابتنى بها فأبغضته من تحت ليلها وكرهت مكانها معه فجعلت تقول: يا خير الفتيان أصبحت، فيرفع رأسه فيرى الليل كما هو. فتقول المرأة أصبح ليل. فلما أصبح قال لها قد علمت ما صنعت الليلة وقد عرفت أن ما صنعت كان كراهية مكاني في نفسك فماذا كرهت مني؟ فسكتت، فألح عليها : كرهتك لأنك ثقيل الصدر خفيف العجز سريع الإراقة بطيء الإفاقة)). وكأن امرأ القيس في مبالغته في ذكر مغامراته مع النساء يريد أن يعوض النقص الذي ولده عزف النساء عن معاشرته، هو الذي حبته الطبيعة قوة وفحولة ورجولة.

ولعل السبب الأكثر قبولاً وتصديقاً في عدم رغبة النساء في معاشرة امرئ القيس ما ذكره كتاب الأغاني أيضاً ((ويقال إن امرأ القيس سأل إحدى نسائه مرة عما تكرهه النساء فيه فقالت: "إنك إذا عرقت فاحت منك ريح كلب. فقال: أنت صدقتني. إن أهلي أرضعوني لبن كلب. ولم تصبر عليه إلا امرأة من كندة كان أكثر ولده منها)).

إن المبالغة في مسألة المرأة ما هي إلاّ تعويض عن هذا النقص الكبير الذي يحس به الشاعر فهو يكذب ليغطي هذا النقص أمام الآخرين. هذا بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً من أن المرأة تمثل في حياة امرئ القيس الشعور بالجمال والكينونة والوجود ليقابل ما يعتلج في نفسه من خوف من المجهول، فإذا ما نشط في عمل الحب حتى مع الحامل والمرضع فهو إنما يبقي الحياة في أوج قوتها وتجديدها لذاتها كي لا يستطيع الموت أن يقضي عليها قضاء كلياً ولتبقى قادرة على مصارعته، والبقاء الدائم رغم مطاردته لها:

وآلت علي حلفة لم تحلل

ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت

إن المرأة تمتنع عليه، لقد وعدت ثم أخلفت، إنها مثل الحياة توجدنا ثم تبدأ بقلب ظهر المجن لنا حتى تتخلى عنا تماماً وتدعنا للموت يلتهمنا ويتلهى بنا، إن امتناع المرأة على امرئ القيس كإدبار الحياة عنه فكلاهما يعني الفجيعة والموت. وكأنه المجهول الذي يتربص به والذي يخافه الشاعر كل الخوف ((فامرؤ القيس توسل هنا بمبدأ التعميم الذاتي بفعل السويداء والوحشة فبدا له أن المرأة لا تزال تخادعه وتغرر به وأنها لن تخلق في نفسه إلاّ البؤس الدائم، ولعله كان يعاني هنا لحظة من الصدق والصفاء النفسيين فباح بحقيقة واقعه من المرأة محققاً ما تذكره الأصول القديمة عنه من أنه كان مفركاً لا تطيق النساء عشرته)).

من كل هذا نستنتج أن ذكره للنساء في معلقته لم يكن بدافع الحب لعنيزة كما ذكرت كتب تاريخ الأدب بل بدافع الصراع الذي نشب في نفسه عند تمثله لحياة الترحال والتنقل تلك الحياة التي كانت سنة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للبيئة الصحراوية. ولم يأت ذكر الغزل في المعلقة إلاّ على سبيل المفاخرة إلى جانب فخره بحصانه وقوته وبراعته في الصيد وكرمه عندما ذبح للعذارى مطيته في يوم دارة جلجل، ولإظهار براعته وقدرته في نظم الشعر ولـه فيه ((أسلوب خاص جرى عليه غيره من الشعراء فيما بعد ويقوم هذا الأسلوب بذكر مغامرة غرامية ونقل ما يدور فيها بين الشاعر وصاحبته من حوار يبدأ بارتياع الحبيبة من مفاجأة الشاعر لها، وبلوم فيه كثير من الدل. وهذا الأسلوب الذي ابتدعه الشاعر لنفسه والذي أظهر فيه تعمقاً بمعرفة النساء كثيراً ما يكون مزيجاً من الوصف والقصص والحوار وذلك بلغة تسيل بين ألفاظها على أتم ائتلاف وانسجام ألحان موسيقية حافلة بالتصورات البديعة والشعور المستعر)). ثم توالت في ذهنه الذكريات، ذكريات حية صامدة أمام كل موت، ذكريات حبه لفاطمة، ويبدو امرؤ القيس معها رجلاً آخر، فهو لا يسعى إلاّ إلى رضاها، ويقف منها موقف الند للند، ولا يكذب ولا يغالي في الحديث بل على العكس نجد في قوله رنة حزن وأسى وهو يعجب من صرمها له:

وإن كنت قد أزمعت صرمي فاجملي

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل

لذا فهو يسائلها مستنكراً إن كانت قد بدت منه إساءة تجاهها:

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

وإن كنت قد ساءتك مني خليقة

وهو يعلم حق العلم أن إساءته إليها شيء مستحيل، ويعلم أنها واثقة من حبه لها فهي تعامله معاملة المرأة المتمكنة من قلب رجلها:

وأنك مهما تأمري القلب يفعل

أغرك مني أن حبك قاتلي

بسهميك في أعشار قلب مقتّل

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي

ولكننا نحس من قول الشاعر أن فاطمة لم تكن تحبه بل هي عازفة عن لقائه صارمة له، ولم يبد منها أية ظاهرة من ظواهر الحب تجاهه، وأنه قد توهم ذلك، لأنه لم يكن قد تعامل مع الحرائر، فلم يعرفهن معرفة أكيدة، لأن تعامله مع المرأة البغي هو التعامل الشائع في شعره بسبب حياته المتنقلة اللاهية.

لقد أراد امرؤ القيس أن يجد الأمان والاستقرار والنماء بين أحضان فاطمة ولكنه لم يحصل على بغيته فأصابه الكمد وانتابته الحسرة، فراح يكذب علينا وعلى نفسه بذكر مغامرة جديدة يظهر فيها افتتان النساء به وتهالكهن عليه ليعوض صد فاطمة وصرمها له.

تمتعت من لهو بها غير معجل

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

عليّ حراصاً لو يسرون مقتلي

تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً

تعرّض أثناء الوشاح المفصل

إذا ما الثريا في السماء تعرضت

لدى الستر إلا لبسة المتفضل

تجلت وقد نضت لنوم ثيابها

وما أن أرى عنك العماية تنجلي

فقالت يمين الله مالك حيلة

إننا نتلمس ما وراء كلمات امرئ القيس فنشعر بأن (بيضة الخدر) هذه ليست أكثر من امرأة محترفة، وأن المعشر الذين حولها ليس بينهم حراس يحرصون على كنزهم الثمين ويقتلون من يلمسه، بل هم طلاب لهو ولذة. وإلاّ فكيف استطاع الوصول إليها؟ لم يذكر لنا الصعوبات التي اعترضته. لقد استطاع الشاعر أن يصل إليها ببساطة ويسر، بالإضافة إلى لهوه المتمهل معها وعدم خشيته من أن يقتحم أحد الخلوة عليهما ويقتله، وهم الحريصون على الفوز به وقتله. وأية امرأة شريفة (بيضة خدر) تسمح لرجل أن يقابلها في مخدعها وهي مستعدة للنوم، وما عليها غير (لبسة المتفضل)؟.

إن الباحث يجد في هذه المرأة أنها امرأة مجربة تعرف الرجال من أول نظرة إلى وجوههم، فكأنه قد جاءها وهي تستعد للنوم بعد عمل يوم مجهد. ولكن هذا الطارق لم يدعها تستريح لأنه جاء للارتواء فهو ظاميء إلى جسد امرأة بعد طول سفر وترحال ووحشة، فهو يريد أن ينتمي إلى الأرض، أرض البقاء والتجدد، فسعى إلى أن يمزج المرأة بالطبيعة، فخرج بها إلى الكثيب وكأنه قد نسي الحراس والمعشر الذين حوله والحراص على قتله:

على أثرينا ذيل مرط مرحل

خرجت بها تمشي تجر وراءنا

فهو يريد أن يعفو ذيل المرط آثار أرجلهما لكي يتمتع بامرأته على مهله ويروي نضوبه وشوقه، وكأنه يخشى أن يستدعيها أحد إذا ما جاءها طارق جديد. ومضى يتلذذ رائحة عطرها كما يتلذذ لمس جسدها اللدن الممتلئ الريان والذي كل ما يهمه فيه هو الارتواء لا غير:

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنق

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

إذا التفتت نحوي تضوع ريحها

ألا ترى حرصه على ذكر ريح الصبا التي طالما اشتاق إليها في ترحاله وأسفاره ورائحة القرنفل التي تنبعث عادة من النساء المترفات المستقرات السعيدات. لذا أقدم امرؤ القيس وبسرعة على نيل ما يبتغي فهو حريص على أن يخلص نفسه من الإحساس بالوحشة والشعور بالزوال. إنه يريد أن يجد نفسه من خلال امتزاجه مع المرأة ليعملا معاً على تجديد الحياة وديمومتها.

عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

هصرت بفودى رأسها فتمايلت

ترائبها مصقولة كالسجنجل

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

لقد أراد امرؤ القيس أن يوحي إلى نفسه بأنها (بيضة خدر) شريفة ليعوض عن شعوره بالنقص إزاء فاطمة التي صرمت حبله، إنه التعويض عن فشله من (بيضات الخدر) الحقيقيات من أمثال فاطمة. إن كثيراً من البغايا يحاولن أن يبدين أمام الرجال عفيفات طاهرات لأجل إثارتهم والاستحواذ عليهم، وما هذه المرأة التي عرضها امرؤ القيس إلاّ واحدة منهن.

ويرى بروكلمان أن الحب ((لم يكن من البواعث الأصلية للشعر.. كما في فخر امرئ القيس بمغامرات العشق والتظرف إلى جانب غير ذلك من أعمال البطولة)). ويرى البعض أن الغزل عندهم قد تحول إلى ((تنفيس عن شهوة الغرور والإعجاب الوهمي بالنفس وقد يرجع ذلك إلى سيطرة قانون العنف والقسوة في مجتمع لا يهدأ من  الكر والفر والطعن والنزال)).

ويعزو بعض الباحثين هذه القصة التي رواها امرؤ القيس إلى ما يمتاز به فنه الشعري القائم على الحوار حيث ((تصبح المرأة هي الطرف المحرك والأداة الدافعة لكل توجيه يحاوله الشاعر، ولكنها تأخذ الوجهة الذاتية التي يستنبطها الشاعر من خلال الحدث المطلوب أو الصفة البارزة أو الاتجاه المحدد).

ويرى البعض الآخر من الباحثين أنها مجرد نزوة غريزية ((وقصيدة الغزل في أكثر الأحيان تمثل رد فعل لفعل لم يحصل أبداً، تفتقد التجربة، مبعثها الحاجة الغريزية، قوامها الوصف الحسي أما الحب بمعناه الحقيقي والتجربة الكامنة فيه المثيرة لأعمق ما في الشعور الإنساني من جذل غامر أو توحد لا مثيل له فقد كان أفعالاً ضائعة وجدت لها ردود أفعال مزيفة تتمثل في أكثر الأوصاف الغزلية)).

وقد استخدم امرؤ القيس جميع حواسه في كشف جمال المرأة، كما فعل تماماً في كشف مظاهر الطبيعة بعد ذلك، ويبدو للباحث أن محاسن المرأة قد امتزجت بمحاسن الطبيعة كما امتزجت المرأة بها. أليس جمال المرأة يبعث إحساساً بالنشوة كالإحساس الذي يوحيه جمال الطبيعة؟ إن المرأة والطبيعة شيء واحد في نظر امرئ القيس، ولكن أليس الإنسان جزءاً من الطبيعة؟ وقد تملى الشاعر محاسن المرأة وراح يعطينا الجمال المثالي كما يراه في المرأة وإن توهم أن امرأته (بيضة الخدر) تمتلك جميع تلك المواصفات لإيحاء السعادة في ذاته تعويضاً عن موقفه المفجع مع فاطمة، فهي بالإضافة إلى بطنها الضامر وامتلائها بحيث لا تبين عظامها وخاصة عند موضع الخلخال من الساق، فهي رشيقة القوام وصدرها أبيض مصقول كالمرآة. وقد شبه بياضها ببيضة النعامة الأولى لأنها تكون خالصة البياض وبالدرة التي لم تثقب:

غذاها نميو الماء غير المحلّل

كبكر مقاناة البياض بصفرة

ثم مضى في وصف العينين والخدين، فخدها سهل جميل وعيناها كعيني المهاة التي معها ولدها ترعاه بناظريها في حنان:

بناظرة من وحش وجرة مطفل

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي

((وقد علم الشاعر وعرف الواصف أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية وأحسن من البقرة وأحسن من كل شيء تشبهه ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون فيقول بعضهم كأنها القمر وكأنها الشمس ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة وإن جيدها أحسن من جيد الظبية)). وهي طويلة الجيد جميلته كجيد لظبي، تزينه الحلي:

إذا هي نصّته ولا بمعطل

وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش

وهي طويلة الشعر فاحمته، ملفوف بشكل جميل جذاب:

أثيث كقنو النخلة المتعثكل

وفرع يزين المتن أسود فاحم

تضل العقاص في مثنى ومرسل

غدائره  مستشزرات إلى العلا

وهو أجمل ما يكون في تصويره خصلات الشعر بكلمة (مستشزرات) فتداخل الشعر مع بعضه في تسريحته الجميلة لم تستطع غير هذه الكلمة المتداخلة الحروف في آن واحد من إظهار المعنى الذي كان يريد الشاعر توضيحه. ثم يصف خصرها الرشيق وساقها الجميل:

وساق كأنبوب السقيّ المذلّل

وكشح لطيف كالجديل مخصّر

وهو في استمتاعه الحسي بجمالها ومحاسنها يتوصل إلى أصابعها اللينة المنعمة التي لم يتلفها العمل ولم يصبها بالخشونة والصلابة:

أساريع ظبي أو مساويك اسحل

وتعطو برخص غير شثن كأنه

فهي كاملة الأوصاف والمحاسن، لذا تمتزج الأوصاف الحسية بالأوصاف الشعورية:

منارة ممسى راهب متبتل

تضيء الظلام بالعشاء كأنها

وهي منعمة مترفة غنية لا تعرف للعمل معنى، حافظت على رونقها وجمالها.

-وهي رؤية بدوية خاطئة وأعتقد أن سبب هذه النظرة مشاركة المرأة للرجل في أكثر الأعمال-:

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وتضحي فتيت المسك فوق فراشها

وهو يجد في هذه المرأة ومثيلاتها مبتغاه وأمنه واستقراره بعد سفر وترحال، بل يجد فيها الأمن والطمأنينة والتخلص من الصراع القائم في نفسه بين البقاء والفناء، لأنها تشرب من نفسه قلقه وخوفه من المجهول كما يشرب رضابها ويتنعم بجمالها. لذا فهو لن يبتعد عنها ولن يجدي الخصوم في تعذالهم ولومهم شيء فهي كنهه الأخير ومستقره في الحياة والسعادة:

إذا ما اسبكرت بين درع وحجول

إلى مثلها يرنو الحليم صبابة

وليس صباي من هواها بمنسل

تسلت عمايات الرجال عن الصبا

نصيح على تهذاله غير مؤتل

ألا رب خصم فيك ألوى رددته

((وهذا المثل في المرأة هو المثل الذي بقي بعد ذلك في العصور كلها ولا يزال حتى اليوم في منزلته تلك التي كان يحتلها أيام امرئ القيس، لم يغيره مرّ العصور وتقلب الأذواق)).

إننا نظلم امرأ القيس إذا قلنا عن وصفه هذا بأنه إمعان في المادية والتعهر، إن الرجل يصبو في قوله هذا إلى المرأة المثال، المرأة الحياة كما يراها هو، وهو ما ذكر كل ذلك إلاّ من باب التعويض لعدم حصوله على المرأة التي يشعر في أحضانها بالاطمئنان والسعادة والاستقرار، إن تجربة الحب الحقيقية تعاش ولا تكتب فمتى ما فقدناها ثم افتقدناها نسعى إلى تصويرها في نفسنا عندئذ نقولها أو نكتبها بأسلوب فني وننقلها إلى نفوس الآخرين كما نحسها نحن في نفوسنا عن طريق الفن والشعر العالي الأخاذ ((إذن فنحن نظلم العرب ونسيء إلى الشعر العربي حينما نقول: إن حب العربي للمرأة كان حب الجسد للجسد فقط فلو كان كذلك لما طال بهم الحنين إليها فأشد الناس شغفاً بالجسد أسرعهم نسياناً له حين يختفي عن نظره. ونظلم الحقيقة حينما ندعي أن العرب أهانوا المرأة بترديد ذكرها)).


 
 

 

 

www.omaraltaleb.com